"قبل خروجي من ادلب كنت قد بدأت مع رفيقاتي بمشروع تطوعي وهو حياكة لفحات صوفية تمثل علم الثورة، وتقديمها للشباب الذين يخرجون ليلاً في مظاهرات سلمية... قررت إكمال المشروع هنا في تركيا واجتمعت مع النساء لأعرف امكاناتهن في هذا العمل."

قبل 6 سنوات، كنت في 54 من العمر حين بدأت رحلة البداية الجديدة أو نهاية الحياة القديمة المستقرة، بإخبارية وصلتني. عميد أحد الفروع الأمنية قال لعناصره: “اطردوا ميادة”.
لم يخطر ببالي أبداً قبل عدة أعوام، وأنا اتنقل بين المدارس حيث كنت أعمل في التدريب التربوي وأدرّس مادة التربية العملية في كلية التربية في ادلب أنني سأطرد من عملي وأبدأ من جديد. بعد أن عملت مع مديرية التربية لأكثر من نصف حياتي.
لم أكن أخفي نفسي، ورغم ارتدائي للخمار في المظاهرات إلا أنني كنت معروفة للجميع. وحدث أكثر من مرّة أن أتاني أحد طلابي وسلّم علي بالاسم: “آنسة ميادة انتِ معنا؟” في إشارة إلى تأييدي للثورة. كنت اعرف أن هذا المصير قادم لكنني لم أحسب حسابه وبهذه السرعة!
تركت منزلي وحياتي خلفي في مدينة إدلب. حملت حقيبة صغيرة وضعت فيها القليل من أشيائي حتى لا تعرف الحواجز أنني مهاجرة، حتى وصلت إلى تركيا. يومها كانت المعابر مفتوحة ولم يكن الأمر صعبا.
بعد أن كنت محاطة بآلاف الأهل والأصدقاء والأخوات، وجدت نفسي أعيش وحيدة في أنطاكية. في شقة فندقية اتخذتها العائلات السورية ملجأ سريعاً، لما ظننا أنه سيكون أشهرا قليلة قبل أن نعود.
وحيدة بلا عمل ولا لغة ولا أهل، لأول مرة في حياتي، محاطة بسيدات البيوت السوريات اللواتي كن يمضين يومهن بالصبحيات والطبخ والنميمة، وهو ما لم اعتد عليه ابدا.
قبل خروجي من ادلب كنت قد بدأت مع رفيقاتي بمشروع تطوعي وهو حياكة لفحات صوفية تمثل علم الثورة، وتقديمها للشباب الذين يخرجون ليلاً في مظاهرات سلمية… قررت إكمال المشروع هنا في تركيا واجتمعت مع النساء لأعرف امكاناتهن في هذا العمل.
كانت البداية بتدريب من تريد التعلم على هذه الاشغال. التمويل كان ذاتيا وبسيطا فالأمر لا يحتاج لأكثر من سنارتين او صنارتين ولفة صوف لكل صبية. استمتعت الصبايا بالعمل واحسسن أنهن يعملن شيئا مفيدا ماديا ومسليا.البعض منهن تميّز بدرجة الاتقان والسرعة.
واجهتنا مشكلة تسويق المنتجات. ورغم امتلاكي لحساب فايسبوك أنشط عليه، إلا أنني لا أعرف شيئا عن التسويق. استعنت بأصدقاء شباب يعملون في المنظمات غير الحكومية في تركيا، ومن لهم علاقات في الخارج. وكانت منتجاتنا تباع عن طريق هذه العلاقات كهدايا بشكل رئيسي.
بعد عدّة أشهر طلب منّا أحد النشطاء حياكة أشياء مختلفة قائلا: “إن معرضنا سيقام في اسطنبول وسنخاطب فيه جمهورا تركيا وسوريا…” وهنا دخلنا في مرحلة جديدة من العمل الابداعي.وانطلقنا…
أذكر أنه قبل يوم أو يومين من تسليم المشغولات، كنا نسهر جميعا حتى الصباح، كي نلتزم بالعدد المطلوب فهناك أكثر من طالب… هذه المجموعة لاسطنبول، وهذه للندن وهذه لفرنسا…
في تلك الليلة ونحن منهمكون بالعمل، جاءتنا احدى السيدات المقيمات في الفندق بعشاء للجميع قائلة: “انا لا أعرف الحياكة ولكنني أجيد الطهو… هذا العمل جمع القاطنات على المحبة وروح الجماعة والتعاون. وكأننا مازلنا في بلدنا نمارس ثورتنا بروحها الجميلة اّنذاك…
بعد أن أيقنا أن عودتنا إلى سوريا لن تكون بعد أشهر كما ظننا، بدأت العائلات السورية المقيمة في الشقق الفندقية تغادر لمساكن أكثر استقراراً. ومنهم من غادر إلى دول ومدن أخرى.
وكنت أنا من اللواتي غادرن. تركت أنطاكية واتجهت الى غازيعنتاب لألتحق ببعض أفراد عائلتي ممن أتوا من سوريا … لم اترك الشغل والتصميم وتابعته مع أخواتي.
أوصلني صديق رائع يعمل محاميا بسيدة يابانية عالمة اّثار عاشت في سوريا فترة طويلة وتتقن العربية وتسعى جاهدة لمساعدة السوريين… أسست مجموعة جديدة من السوريات أطلقنا عليها اسم ”يدويات بنات زينت“ بدأت أتولى ادارتها مع أخواتي غادة مدرسة الفيزياء، ميسون مدرّسة فنون. أطلقنا على المجموعة اسم زينت وهي والدتنا.
بدأ عملنا يصبح منظما أكثر وإبداعياً، واستمرينا فأوصلنا تراثنا الى اليابان. ونرسل ايضا من خلال لوحاتنا رسائل محبة وصداقة لهم.
نعمل مع مجموعة ”أبرة وخيط“ اليابانية منذ أكثر من سنتين الآن، عرضت أعمالنا في المتاحف والمعارض اليابانيةـ إضافة للنمسا واميركا وفرنسا. وهي تنال الإعجاب والرضا. أصبحنا نتلقى طلبات خاصة لأعمال يدوية عبر صفحتنا على الفايسبوك التي أديرها بنفسي…
في منتصف الخمسينات ابتكرنا بدايتنا البعيدة عن مجال عملنا الفكري ونشاطنا الثوري القديم. لكننا نساعد عائلات محتاجة ونعطي سوريات لا يجدن فرصا للعمل في تركيا وسوريا، فرصة دخل يساعدهن على الاستمرار.
ميادة السيد عيسى (60 عاماً) مدرّسة لغة عربية ومدربة تربوية لأكثر من ثلاثين عاماً في مدينة ادلب وريفها. تعيش في جنوب تركيا حاليا حيث تدير شبكة أشغال يدوية نسائية للنازحات السوريات.