‎‎داعش على الأرض والطائرة في السماء ‎

أمرأة تعيش مع أطفالها في كهف في حي المعادي بحلب

أمرأة تعيش مع أطفالها في كهف في حي المعادي بحلب

في يوم مشمس من شتاء بارد مرّ على سوريا والسوريين في منتصف شهر شباط/ فبراير من عام  2015، قررت أن أسمح لبناتي باللعب خارج المنزل مع أقرانهم من الأطفال، بعد أكثر من أسبوع من ملازمة البيت بسبب موجة الصقيع التي عصفت بالبلاد.

 

هنا في الريف الشرقي لحلب حيث كان تنظيم داعش يبسط سيطرته منذ بداية عام 2014. وبدأ بفرض قوانين دولة الخلافة التي أعلنها، بإجبار النساء على ارتداء العباءة السوداء والخمار الذي يغطي الوجه كاملاً. ومن مساوئ القدر أنهم تمركزوا في الشارع العام الذي يطل عليه بيت حماي (أهل زوجي) حيث أعيش منذ نزوحي من بيتي في مدينة حلب عام 2013. وهذا ما كان يأسر حريتنا، ويحول دون تنقّلنا بالأرض المحيطة بالمنزل، والمزروعة بشجر الزيتون وبعض أنواع الأشجار المثمرة.

 

عند شجرة التوت تم ربط حبال على شكل أرجوحة، إلى هناك خرجت ابنتي التي تبلغ من العمر 5 سنوات مع أختها الصغرى 3 سنوات. لم أتوقع أن يكون ثمن هذا اليوم الدافئ من أيام الشتاء الباردة، زيارة مرعبة من الطائرة الحربية. منذ سيطرت داعش على هذه المناطق لم يقدم النظام على قصفها، ما أثار الشكوك عند أهالي المنطقة حول علاقة هذا التنظيم الغريب بالنظام في دمشق.

 

وأنا أغلي فنجان القهوة الصباحي، إختفى صدى الالعاب الطفولية بالخارج. حلّ محلّه ذاك الهدير المرعب معلناً قدوم “الملعونة” كما يسمّيها أبناء المنطقة. هي لا تجلب معها سوى الموت والخراب. في الظروف الطبيعية يكون الهمّ الأول والأخير للجميع كيف يجمع أبناء البيت الواحد بزاوية واحدة في المنزل تحايلا منا على الموت. ولكن لم أتوقع يوماً أنني سأفكر بالطريقة التي سأركض فيها خارجاً لإحضار بناتي اللواتي يلعبن تحت سماء تلك الطائرة التي  ستلقي حممها فوق رؤوسنا بعد قليل.

 

خرجت مسرعة بدون تفكير يسبقني قلب الأم. نسيت داعش وقوانينها، لم أفكّر إلّا بطفلتيّ خارج المنزل، وتلك الطائرة تحوم فوق رؤوسنا. وجدت ابنتي الكبرى تركض بإتجاه المنزل باكية مرعوبة. سألتها عن أختها أجابتني أنها تجلس على جزء من سور مرتفع لم تستطع أن تنزلها لتجلبها معها. لا أعرف حتى هذه اللحظة كيف هرولت خارجاً، فوجئت بأحد الأقارب يمنعني من الخروج، منبهاً إلى أنني معرضة للخطر بخروجي دون عباءة وخمار. كيف يمكن أن أفكر الآن بهذه الامور وابنتي ما زالت بالخارج. على الرغم من تطوع كثيرين لإحضارها، لم أستطع الانتظار وتلك العمياء تحلّق فوقنا، وستقذف صواريخها بأي لحظة. أعلم تماماً أن حضني لن يبعد عنها الخطر، ولكن على الأقل يشعرها ببعض الأمان. مرّت دقائق تعادل عمراً حتى رأيت وجهاً أصفر بارد وعينين دامعتين. حضنتها وبكيت كثيراً. كيف نعيش هذه الحياة؟ حرب على الأرض ضد عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا حتى ديننا. وحرب من السماء ضد وجودنا وحياتنا مستقبل أطفالنا!

 

نفذت الطائرة غارتين، الأولى في منطقة قريبة جداً من سكننا. ارتجت على إثرها نوافذ المنزل وأبوابه وخلعت النايلون الذي يحيط بالنوافذ ليمنع دخول رذاذ المطر إلى داخل البيوت الريفية. حتى بابور الكاز الذي كنا نستخدمه ليلا للإنارة في غياب الكهرباء وقع وأنكسر من قوة الارتجاج. أما الغارة الثانية، فكان الصوت البعيد للانفجار يدلّ على بعدها عنّا.

 

بعد نصف ساعة تواردت الأخبار حول مقتل طفلة كانت في ضيافة خالتها، وتهدم جزء من المنزل، تأمّلت ابنتي التي نامت بحضني بعد أن ساد الهدوء، وكل الأفكار الجهنمية تتصارع في رأسي. ماذا لو تأخّرت عن إحضارها لانشغالي بارتداء اللباس الشرعي، أو لم يتواجد بالجوار من ساعدني بإحضارها بهذه السرعة؟

 

أبعدت الأفكار السوداء وهمست بأذنها: “الحمد لله على سلامتك يا طفلتي”. هناك طفلة لم تنعم بهذه النعمة ولم تجد حضناً يحتويها فاحتواها القبر. بعد ساعة تقريباً فتحت إبنتي عينيها بادرتني بالسؤال: “هل ستعود الطائرة لتقتلنا؟”

لم أصب بالحيرة يوماً كما تلك اللحظة، بماذا سأجيبها؟ نعم ستعود وتدخل الرعب بكل ثانية من حياتنا بانتظار عودتها؟ أنختبئ وراء خيوط الأمل التي نعلم جيداً أنها انقطعت. في تلك اللحظة قررت أن أختار وهم الأمل وبادرتها أنا بالسؤال: “هل تريدين العودة للعب بالخارج؟” قالت بصوت خائف: “نعم.” رفعت صوتي بجوابي المتأخر على سؤالها: “إذاً لن تعود الطائرة لتقتلنا، هيا نخرج سويا ونلعب تحت أشعة شمس شباط .”

 

هدى أبو نبوت (36 عاماً) درست الإعلام في جامعة دمشق، وعملت في المجال الطبي حتى مغادرتها سوريا في ايار/مايو 2015. تقيم في اسطنبول في تركيا وتعمل حالياً في مجال الصحافة.