أم مريم أم للعديد من الأطفال السوريين

روضة أم مريم تصوير إلهام العلي

تقود ربا الابراهيم (34 عاماً) طفلتيها مريم وهاجر، وتقطع بعض الشوارع في بلدة كفرناها في ريف حلب الغربي وهي تلقي التحية على من يصادفها في الطريق في بلدة أصبحت جزءاً من حياتها الحالية.

تقصد ربا وابنتيها روضة “براعم المستقبل” هذا المكان الذي تعتبره ربا بيتها الثاني، فهو المكان الذي تلتقي فيه بعدد من الأطفال من نازحين ومهجرين ومقيمين، أطفالاً جعلتهم هذه الروضة والأيام كأبناء لها.

السيدة ربا الابراهيم المعروفة بـ”أم مريم” مهندسة مهجرة من مدينة حلب تسكن في بلدة كفرناها في الريف الغربي منذ قرابة الثلاثة أعوام. تبدأ حديثها عن سنوات مضت أيامها ولم تمض ذكرياتها، بزفرة صغيرة مِلؤها الحزن والحنين تقول: “كنت مواطنة عادية أبحث عن وظيفة كآلاف الخريجين من الجامعات قبل بداية الحراك الثوري السرّي في مدينتي الأم حلب”.

كانت حلب كما يعلم الجميع في قبضة أمنية شديدة جداً منعت الكثير من التحرك والتظاهر السلميّ حتى بشكل سريّ خوفاً من الاعتقال والقتل.

في بداية 2012 بدأ الحراك السلميّ بشكل متقطع في بعض حارات مدينة حلب. تقول ربا: “كنا مجموعة ننسق مع بعضنا بشكل سريّ للغاية، ونخرج بمظاهرات سريعة لمدة قد لا تتجاوز الربع ساعة خوفاً من وصول الأمن المنتشر في كل مكان إلينا”.

تسترسل أم مريم بالحديث وتبدأ عيناها بالريق لتضيف: “كم كانت أياماً جميلة رغم ما فيها من خوف، فقد كنا لا نزال في حلب، جمال تلك الأيام هو إحساس غريب بسعادة وشيء من الحرية التي كنا نطالب بها، إنّه كسرُ حاجز الخوف في داخلنا”.

تطورت الأحداث وعمّ الحراك الثوري والمظاهرات أرجاء واسعة من ريف حلب والمدينة. ومع تطور الأحداث وجدت أم مريم نفسها تقوم بدور المسعفة لجرحى المظاهرات، إنّه واقع فرضه القمع والظلم ومهنة المسعفة لم تكن بحسبانها على حدّ قولها.

في هذا العمل الإسعافي الإنساني تعرفت ربا على زوجها الصيدلاني أبو مريم، الذي كان يعمل مسعفاً ومضمداً ويعالج الجرحى أيضاً بحسب خبرته. وتمّ زواجهما بعد شهور من العمل في الإسعاف ليكون شهر عسلهما بين المصابين.  ثم جاء حصار حلب وهي أم لطفلتها الأولى مريم، أيام سوداء، حصار وجوع وقصف وموت في كل زاوية، وهي أم لطفلة لم تعرف من حياتها سوى هذه الحرب الظالمة.

مغامرات وأحداث عصيبة مرت بها أم مريم وأسرتها ليأتي يوم التهجير، بغصة وألم تقول: “لم يكن أمامنا من خيار آخر، إنّه الموت بطريقة أخرى، التهجير من حلب، حلب مدينتي التي لم أعرف سواها في حياتي، طفولتي وذكرياتي ودراستي وزواجي وكل شيء. هي لحظات خروج السمكة من المياه إلى المجهول، وقد كان في بطني جنين على وشك القدوم إلى الحياة”.

أيام عصيبة أكثر من سنوات الحصار مرّت على ربا، أين أنا؟ أين أمي؟ أين إخوتي؟ أسئلة كانت تدور في خلدها.

تتابع أم مريم حديثها: “حين حان موعد الولادة لجنيني كنت أعلم انني وحدي باستثناء زوجي، لكن المرأة في ولادتها تحتاج ان تكون أمها أو أختها أو حتى جارة العمر إلى جانبها”.

آلام القهر في لحظات الولادة كانت تطغى على نفسية ربا، ربما باتت آلام المخاض أسهل من فقد أهل وجيران ومجتمع كامل وحياة جديدة مع زيادة المسؤولية. بعد أيام من التهجير وضعت ربا طفلتها الثانية والتي أسمتها “هاجر” لتبقى ذكرى التهجير حاضرة في كل ثانية.

بعد الولادة دخلت ربا في حالة نفسية صعبة، إنها حالة تشبه الاكتئاب أو أصعب، انعزال تام عن العالم، سكوت خانق، هدوء أليم كما يخبرنا زوجها ويضيف: “باءت جميع محاولاتي بإخراج زوجتي من حالتها بالفشل، كانت مرحلة صعبة، هجرة جديدة، وطفلة صغيرة وأخرى عمرها أيام معدودة”.

يضيف زوجها:” حاولت بشتى الوسائل أن اخرجها من حالتها تلك بعد الولادة، كنت أضع مريم في حضنها لتنطق بكلمات طفولية، ثم تبتسم زوجتي ابتسامة حزينة “.

وعن هذه المرحلة تقول أم مريم: “كم كان صعباً عليّ ان أكون وحيدة في ولادتي بعيداً عن أمي وأخواتي وعن حلب وعن مسقط رأسي ومنبت ثورتي! كم كان صعباً عليّ التأقلم مع هذا الوضع”.

ثم مضى على هذه الحالة أكثر من شهر، حالة لم تكسرها جميع محاولات الزوج وبعض المعارف الجدد في المكان الجديد، حالة كسرتها الابتسامة الأولى لطفلتها هاجر، فهنا كانت الغلبة للأمومة ليبدأ هذا الشعور وتلك الابتسامة البريئة الصغيرة بقتل وطرد اليأس من قلب ربا.

بدأت ربا باستعادة توازنها والنهوض مجدداً لتأخذ دورها كأم ومربية، وعندما تحسنت حالتها قررت ومن وحيّ طفلتيها أن تكون أماً لعدد أكبر من أطفال حرمتهم الحرب ابتسامتهم. 

لمعت فكرة الروضة وبدأت بتنفيذها والعمل عليها واستقطاب الأطفال بشكل تطوعي لتعلمهم وتلاعبهم وتحكي لهم وتغني معهم بعيداً عن الحرب، بعيداً عن صوت الطائرة، بعيداً عن كل الموت والخوف والألم والظلم، لتعتني بطفولة لم تعرف إلّا الحرب والخوف والدمار.

هؤلاء الأطفال هم حياة ربا الجديدة حيث تتغير لمعة عينيها حين تبدأ بذكر أسمائهم، وتكمل: “أعلم عن هؤلاء الأطفال كما أعلم عن بناتي، أعرف كيف يبكون وكيف يضحكون، وأعرف كيف أستطيع أن أسعدهم دائماً”.

انجاز تفتخر به ربا وتعتبر أن الثورة هم هؤلاء الأطفال وأنه من واجبها الحفاظ عليهم وعلى نفسيتهم من خدوش وجروح الحرب، من جهة أخرى تتأسف على حال الكثير من الأطفال غيرهم الذين يباتون في الخيام دون تعليم ولا ترفيه، دون استقرار في وطن أصبح مجرد خيمة بين الخيام كما تقول.