واحد واحد واحد الشعب السوري واحد
انتهت الاحتفالية الخاصة بالأطفال في منطقة طريق الباب في حلب، والتي كانت من تنظيم المنبر الديمقراطي، تم توزيع الهدايا على الفائزين. حان وقت العودة إلى المنازل وقطع مسافة طويلة. سيراً على الاقدام، ثم ركوب السيرفيس فالركض لقطع النهر المستهدف من القناص فوق مديرية الزراعة.
كنا 11 شخصا، مجموعة تابعة للمنبر الديمقراطي، ومتطوعون شاركوا في إحياء هذا الحدث، كنا من معتقدات وقوميات مختلفة. عرب وأكراد، سنة وعلويون واسماعيليون، ودروز. جمعتنا الهوية الوطنية السورية، توافقنا على المطالب ورفض النظام الطاغية. بدأنا بالهتاف “الشعب يريد اسقاط النظام. واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”. ضمن تجمع سكاني مشجعا وفرحا بوجودنا ونحن نخطو باتجاه مكان الانطلاق لنتفرق كل الى اعماله.
كنا نودّع سنة 2012، ونحتفل بيوم راس السنة الميلادية. هذه المناسبة الغالية جدا علي منذ الصغر، فأنا أنتمى لعائلة تحتفل بذكرى الميلاد المجيد. كان أولادي يحبون هذه المناسبة أيضا، فهي تحمل لهم هدايا بابا نويل المخبأة أمام شجرة الميلاد. كنت قد جهزت الهدايا وجهزت كل الأشياء والمأكولات استعداداً لهذه المناسبة، لكنني لم أكن اعرف أنني لن أحتفل بهذا اليوم أبداً، أو أنني سأحتفل بطريقة أخرى.
خرجنا من الصالة حيث أقمنا الاحتفالية، كانت صالة أفراح وحفلات، رأيت الطائرة فوقنا. شعرت بالتوتر الشديد، ضحك الجميع ساخرين، قالوا أن الطائرة لا تقصف عادة هنا انها، إنما تستهدف منطقة المرجة وتنهال عليها يوميا بالبراميل والصواريخ. شعرت بالارتياح المشوب بالقلق. شيء ما جعلني أسرع هربا من تلك المنطقة. مشينا باتجاه طريق العودة، فجأة شعرت بشي ما اصابني. لدقائق لم ادرك ما هو، وكأن أحدا ما أمسك حفنة كبيرة من التراب وقذفها علينا، أنا والعشرة من أصدقائي وقعنا جميعا على الأرض. نظرت خلفي لأراهم جميعاً مضرّجين بدمائهم. كانوا يصرخون من الألم، إنها أجزاء من الثانية من فقدان الادراك بما يحيط بي. كل الأشياء حولي بدت فوضى وضوضاء ثانوية. صحوت بعد دقائق على أصوات الناس “لا حدا يقرّب، الطيارة ممكن تضرب مرة تانية”. عرفت حينها أاننا اصبنا جميعا.
كان السيناريو المعتاد، أن الطائرة تقصف مرة ثم تعود لتقصف الموقع نفسه مرة ثانية، لتقتل وتصيب أكبر عدد ممكن من الناس الذين يركضون لإسعاف الجرحى. ما يدفعني للسؤال ليس عن قدرة الطيار على القيام بهذه الجريمة، بل حول رغبته بقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين، فأي حقد هذا.
تمكنت من الوقوف وانا أضع يدي على رقبتي، تحت الأذن اليسرى تماماً. شعرت أن ثقباً كبيراً قد فتح في رقبتي، كنت أحاول التعرّف باللمس عن مدى الإصابة والأضرار التي لحقت برقبتي. لم أعد أسمع شيئاً بالأذن اليسرى، والدماء تنزف بشدة. ركضت بسرعة إلى مدخل إحدى البنايات للاختباء. كانت تتصارع الأشياء بداخلي، أقف مختبئة في المدخل، أم أركض لسحب أصدقائي المصابين. أم أحاول أن اكتشف أماكن إصابتي المختلفة في باقي أعضاء جسدي؟ لم أكن استطيع التأكد من أماكن الإصابة، أي جزء أصيب غير رقبتي وأذني؟
لم تستطع إحدى صديقاتي النهوض، كانت تزحف كما الأطفال الذين لم يتعلموا المشي بعد. تبحث عن أي شيء تختبئ خلفه. كان المشهد رهيباً، أصابنا جميعاً بالذهول والخوف. ماذا يجب أن نفعل الآن؟ ذهبت الطائرة أم أنها ما تزال تشتاق لدماء الأبرياء المدنيين؟
ذلك الشاب الدرزي المعارض ص. ص.، كانت زيارته الأولى لمدينة حلب. كان في سن الـ21، ضحكنا ورقصنا وأسعدنا الأطفال معاً. وتعاهدنا جميعاً بأنه سيكرر الزيارة كلما استطاع. كان في خروجه من مدينة السويداء الموالية للنظام، مخاطرة كبيرة. ولكن لم يعد هناك من داع للمخاطرة، لقد استشهد بذلك اليوم!
خلال نقلي الى المشفى الميداني كنت أحاول التمسك بالحياة، أاطرد أي شبح للموت من أمامي. أريد أن أعيش وسأقاوم الغياب عن الوعي. ولكنني لم أستطع بمفردي، كلما شعرت بأنني سأغمض عيني كلما كان أحدهم يوقظني رغماً عني. حاولت البحث عن شيء إيجابي أفكر به، أو أخطط له، حاولت التفكير بأي شيء يشبهني بذلك اليوم أي شيء يدعو للفرح. ولكن عبثاً زادت الدماء النازفة وبدأت اشعر بالدوار. في المشفى سمعت الممرضة تقول أن حالتي صعبة جداً والشظية قرب الشريان المغذي للدماغ. كنت أشعر أن الممرضة تحاول سحب الشظية ولكنها لم تستطع، أصابها اليأس. طلبت نقلي إلى مشفى زرزور حيث العناية الأفضل. وضعوني في سيارة السوزوكي فوق جثتي شهيدين ونقلوني الى المشفى الثاني .
في تلك اللحظات عندما أخاطب نفسي: هل هذه اخر لحظات اعيشها؟ هل سأستطيع التمسك بالحياة واستنشاق الهواء؟ وقلت لن أموت لن أموت. عندما خارت قواي نظرت إلى السماء، أردت أن أموت ولون السماء الأزرق النقي آخر ما أراه. أذكر تماما أن هناك حمامتين تطيران في السماء، فرحت برؤيتهما حرّتين. في اخر لحظات ، رفضت الموت وبمخيلتي صور الدماء والدمار، سأحتفظ بمشاهد جميلة بذاكرتي وآخذها معي الى منفاي الأبدي.
اجتمعنا بالمشفى جميعاً، كلُّ حسب إصابته وألمه. وحّدتنا الآلام يومها، وحّدتنا المصائب والمحبّة والإصرار. بكينا كثيراً لاستشهاد صديقنا. الآن وبعد مضي أكثر من سنتين، كل منا في مكان. صديقتي ذات الإصابة بقدميها أصبحت بحالة ممتازة بعد معاناة طويلة، هي الان شعلة من الفرح والعطاء والعمل لأجل الذين استشهدوا وأوّلهم ص.ص.
سنكمل المشوار رغماظص الموت. رغم التعب رغم المعاناة وسنهتف مجددا: واحد واحد واحد … الشعب السوري واحد.