من أجل عصا كهربائية
إنه الشهر السابع العام 2012، في مدينة حلب في ذلك العام من الثورة كنا نعمل جميعاً بأي شيء يشعرنا بانتمائنا للثورة. سياسة – حراك مدني – إغاثة – تنسيقيات، أي شيء، ما كان يهمنا حينها أننا نعمل لأجل الثورة. كنا أحياناً نتصرف بطيش، بغباء بدون أي حسّ بالمسؤولية، اندفعنا بقوة كالسيل. كنت أعمل بالمشافي الميدانية، لست بممرضة فأنا لا أملك قلبا لرؤية الدماء، حتى لو كانت دماء دورتي الشهرية، لكنني استطعت أن أمسك أكياس الدم والأدوية، ربما لأن كيس الدم هذا سيكون قادرا على إعطاء الحياة لشخص مصاب، كان يوحي لي بالاستمرارية بالحياة، على خلاف المشاهد الدامية الأخرى، مشاهد الموت. كنت ألعب دور الوسيط، أوصل الأكياس للشاب المسؤول ليوصلها بدوره إلى المشافي الميدانية في المناطق المحررة. لم أكن أستطيع حينها الذهاب إلى تلك المناطق والمشافي، كنت حريصة أن يبقى عملي ضمن المناطق المحتلة، لسهولة حركتي وعدم وجود أي شبهات حولي آنذاك. كنا نعمل سوية في الجمعية الإسلامية في منطقة الفرقان بمدينة حلب.
أذكر حين سافرت إلى تركيا عبر معبر مدينة أعزاز، كان تحت سيطرة النظام آنذاك. لم أكن مطلوبة حينها، عبرت بشكل طبيعي وبقيت 3 أيام. لم يستطع سائق التاكسي إرجاعي إلى حلب. هذا يعني أنني لن أستطيع إدخال أكياس الدم والأدوية من المعبر، فهو من كان يساعدني بتهريبها. أسقطت أهداف الرحلة، لم أشأ المخاطرة ولا استطيعها لوحدي. شعرت أن سفري الى عينتاب وقتها بلا فائدة. هناك زرت مجموعة من الأصدقاء القدامى الذين كانوا من أوائل الداعمين للثورة بطريقتهم. شباب وصبايا عملوا وراء الكواليس، بصمت وبشكل متفان وجدي ومسؤول. هم تبرّعوا بأقساطهم الجامعية لمعالجة جرحى الجيش الحر والمصابين القادمين من سوريا، تلك المجموعة من الأصدقاء الأوفياء للثورة ترفع لهم القبعات احتراماً.
خلال إقامتي في عينتاب، زرت المشافي التي يتعالج فيها الجرحى. إحدى الحالات كانت لشاب من ريف إدلب مصاب وإصابته شديدة، أذكر أن اسمه محمود، علمت لاحقاً أنه استعاد حياته بعد أن كان في عداد الموتى. في مشفى الدولة بمدينة عينتاب زرت شابا فلسطينياً ووالده الستيني، كانوا من مخيم اليرموك في دمشق، روى لي الأب قصته قائلا: “أنا لا علاقة لي مع أحد، بائع الغاز قال للأمن اني مع الثورة. داهموا البيت وجدوا بندقية صيد. اتهموني بتخزين السلاح في بيتي، ضربوني وضربوا ابنتي وزوجتي وابني، وأخذونا انا وابني”. كان الرجل يرتجف وهو يسرد قصته متابعا “اقتادونا إلى السجن، أدخلونا معصوبي الأعين إلى غرفة صغيرة فيها معتقلين كثر، صرت أصرخ وأنادي باسم ابني، عندما أجابني شعر بالارتياح. أخبرني عن التعذيب الذي تعرض له مع ولده، كنت أستمع وأبكي. روى لي طرق التعذيب الحقيرة حتى أصابه توتر شديد وازداد رجفان يديه وشفتيه وأجهش بالبكاء. تركته وخرجت مسرعة، هرباً من هول ما سمعت.
في اليوم التالي كان موعد العودة إلى سوريا. نتيجة غباء أو تهور لا أدري، اشتريت عصا كهربائية من مدينة كيليس التركية، كانت أرخص سعرا من سوريا. في تلك الأيام كان من الضروري اقتناء هكذا آلة للدفاع عن النفس اثناء التظاهرات. لم أكن أشعر بأي خوف أو خطر من وجودها بحقيبة يدي، لم تكن العادة أن يفتشوا حقائب يد السيدات، ولم أكن مطلوبة حينها فلما أخاف إذن.
كان يوم الجمعة من الأيام الخطيرة التي تترافق مع حالة استنفار كبير، لأنها موعد المظاهرات، كنت أنا والسائق في سيارة التاكسي، توقفنا عند حاجز التفتيش في معبر باب السلامة بمدينة اعزاز. فتش الجندي السيارة جيداً، وفجأة ودون توقع مني قالي لي: ماذا في حقيبة يدك؟ حالة من التوتر والخوف والرعب عشتها، بدأ قلبي يرتجف، فتحت الحقيبة بسرعة وأغلقتها. سألني: “ما هذه؟” مشيرا إلى العصا الكهربائية. لم أستطع الإجابة. أخذ العصا وبدأ يصدر ذلك الصوت ويصيح: “سيدي، سيدي، (هكذا يخاطب الجندي السوري من هو أعلى منه رتبة) معها عصا كهربائية”. جاء رد سيده: “ماذا؟ عصا كهربائية، هاتها”. بدا وكأنه لم يسمع بتلك الآلة أبداً.
لحظات صعبة عشتها، لدي أقلّ من دقيقة لأنقذ نفسي والآخرين. خوفي الأكبر ليس من العصا الكهربائية إنما من كارت ذاكرة الكاميرا المخبأة في حقيبة يدي أيضا، والتي تخزن صور الشباب الثوار والمصابين الذين زرتهم. لقد كنت من هواة التصوير، لقد وثقت كل ما قيل لي وشاهدته بكاميرتي المتواضعة، وعدت بذكريات مريرة لأناس لا تربطني بهم أية صلة سوى الثورة السورية. وها أنا أعرّضهم للخطر.
للحظات، لم أعد أسمع ولا أرى ولا أفكّر إلّا بالكارت الصغير في سحابة حقيبة يدي. وأصبحت كل حياتي مركزة في كيفية التخلّص من الكارت. أخرجته بسرعة البرق ورميته. قوة غريبة وسرعة هائلة اجتاحتني. حينها شعرت بالاطمئنان قليلا، فأي عقوبة لحملي عصا كهربائية، ستكون أخف بكثير من عقوبة كارت الذاكرة وما يختزنه. وبدأ السيد الأعلى رتبة يسألني: من أين أنتِ؟ أين تقيمين؟ ماذا كنتِ تفعلين في تركيا؟ انهال علي بالأسئلة وأنا اجيب بشكل محدد ومقتضب. ثم بدأ يفتش اغراضي الشخصية بطريقة قذرة، وأنا بحالة صمت وحقد وتوتر. شعرت بالإهانة والعجزعن إتيان أي ردة فعل. سألني لماذا اقتني العصا الكهربائية؟ أذكر وقتها بانني اجبته: لا بد من اقتناء تلك العصا للدفاع فيها عن النفس، فالعصابات المسلحة منتشرة في المدينة وأخاف على نفسي كثيراً. ربما ساعدني هذا الجواب. كان يحدثني وهو يمسك العصا، اقترب مني ووجهها إلى عنقيعلى بعد سنتيمترات، وضغط عليها لتصدر ذلك الصوت الكهربائي والشرار القوي. ابتعدت بسرعة، ووضعت يدي على عنقي متألمة. وكان يضحك بصوت عال وقال لي: هل ترين كم تؤلم؟ سأكتفي بمصادرتها منك.
عدت إلى السيارة وأنا بحالة صمت وذهول. وفي نفس الوقت شعرت بالنصر والتفوق عليه، لم أستطع النطق بكلمة واحدة حتى بعد وصولي إلى منزلي في مدينة حلب، استلقيت بفراشي متعبة، وقلت في نفسي: بقضية العصا الكهربائية هكذا كانت النتيجة فكيف كان سيكون عليه الحال لو وجدوا كارت ذاكرة الكاميرا!