مراسم زفاف خارجة عن سيطرة الأسد

في 17 كانون الثاني/يناير2013 كان يوم زفافي، لم يكن في صالة كبيرة، لا موسيقى ولا حفلة وغناء. كان زوجي صحافياً وناشطاً في الثورة، وصاحب ملف عند الأمن لمعارضته القديمة (بمعنى مطلوب أو قيد المراقبة). كنت أعيش في مناطق سيطرة النظام في حلب، ويحيط بمنزلنا عشرات الحواجز التابعة للمخابرات الجوية السيئة السمعة حتى بالنسبة لقريناتها. في حين كان يعيش هو في المناطق المحررة، ويقوم ببعض الزيارات الخاطفة لمناطق النظام لضرورات تخص الثورة.

العقبة الأولى التي واجهت زواجنا كانت رفض أبي القاطع، فهو يرى أن زوجي لم يعد يملك مستقبلاً بسبب موقفه، ولأنه في أي لحظة ممكن أن يُغيَّب في أحد معتقلات النظام، وأنه سبب في “ضياعي” ظنّاً من أبي أنني قد خرجت في المظاهرات من أجله. لا يعلم أبي أننا تعارفنا في إحدى تلك المظاهرات. كان شرطه التعجيزي أن يتم عقد قراننا في منزلنا، أي أن عليه أن يعبر عشرات الحواجز التي تحمل تعميماً باسمه عاقاً خارجاً عن رضا “الأب” القائد، بباقة ورد وقطع حلويات عبر الحواجز وهو يبتسم ويقبل صياديه. وجاء الشرط الآخر بتثبيت زواجنا في المحكمة الشرعية التي تتبع للنظام، وزوجي المستقبلي لا يحمل هوية ولا أي وثيقة كما أنه لا يتجرأ على الذهاب لأي دائرة رسمية تشكل في ذاك الوقت دوامة تبتلع المعارضين. اتصلنا بمحام صديق لنا ووكلناه بصورة قديمة عن الهوية، كما وكلنا محام آخر عني، وكان من الأمور الطريفة أنه تم توقيع أوراق وكالة الزواج في مبنى نادي الاتحاد الرياضي في القسم الإداري، حيث باتت هذه الذكرى الى اليوم ترسم البسمة على شفاهنا وتجعلنا ندين لكرة القدم بسلامتنا واجتماعنا.

حلب القديمة كواليس تصوير مسلسل أم عبدو الحلبية. تصوير: صلاح الأشقر

طريق واحد يفصل بين حياة العزوبية وينقلني إلى حياة جديدة مع الشخص الذي اخترته لأكمل حياتي معه، وربما كانت حياتي تنتهي على هذا الطريق. “طريق الموت” معبر كراج الحجز وهو الطريق الذي يفصل بين مناطق الاسد والمناطق المحررة، بين الظلم والحرية، حيث كانت قناصة الاسد منتشرة على أسطح المباني تترصد طريق الحرية. أسرعت بنا سيارة الأجرة وهي تدخل تلك المناطق التي تبدو خالية تماماً، لكن سرعان ما تكتشف أن الحياة كلها تنبض هناك، حياة تبدو لك أنها خارجة عن نطاق الكون، منقطعة عن سلسلة التقدم التكنولوجي لندرة وسائل العيش، فلا كهرباء ولا ماء ولا هواتف ولا شيئاً يربط هذه المنطقة بالأخرى التي لا تبعد عنها أكثر من مئة متر، لكن تختلف هنا وجوه الناس، فرغم التعب هناك ملامح من التمرد في العيون، ابتسامات متمكنة متأكدة من النصر رغم رسائل الموت اليومية، هنا يقبع جو كرامة، ريح حرية، دفء مصير مشترك.

دخلت حارة زوجي ذات البيوت العربية القديمة بالاسقف المقببة الجميلة. على باب البيت استقبلتني امرأة في الستين من عمرها بعينين تطفران حباً وحناناً، وكان هناك عدد كبير من الناس ظننت في البداية أنهم مجتمعون بمناسبة زفافنا، لكن في الأيام القادمة علمت أن هذا البيت مركز تجمع لعائلات الحي، في حين أن البيت الذي بقربه كان مخصصاً للناشطين الهاربين من مناطق النظام أو القادمين من محافظات أخرى، كانت حماتي الستينية تقوم على خدمتهم جميعاً من طعام وغسيل وأمومة، بل إنها تستقبل زوجة هذا وتخطب فتاة ذاك، كانت تدافع بحماسة مطلقة عن الثورة والحرية والتمرد على نظام بشار الأسد، وكنت أظن أنها تتبنى موقف العائلة المعارض فمن إخوتها وأبناء عمومتها من غيّب أعواماً في سجون النظام لمعارضتهم إياه، لكنني اكتشفت أنها تؤمن بالحرية إيماناً مطلقاً لأن ولديها يؤمنان بها، لم تتخلَّ حماتي عن دور الأمومة لحظة واحدة منذ عرفتها. كان يوم زفافي خال من أي تصنع، دخلت حياتي التي كنت أريد وبالطريقة التي أريد، وأصبحت مقتنعة اكثر أن كل تقليدي وقديم قد زال مع الثورة لتكون حياتنا بكل تفاصيلها جديدة وحقيقية وطبيعية دون أي زيف. جلسنا لتناول الغداء وأصوات القذائف تدوي حولنا، كان ذلك جديد علي تماماً، وهم ينظرون إلي بضحكة ويقولون لي “شي منو كتير، بدك تتعودي الوضع هيك ليل نهار”. نعم سمعت هذه الأصوات كثيراً في منزل أهلي، لكن كنت على يقين تام أنها لن تسقط علينا، كنت أحاول أن أتقصى الأخبار بعد سماع صوت أي قذيفة لأطمئن على أصدقائي وحبيبي قبل أن يكون زوجي، اليوم اختلف الأمر كلياً، لقد أصبحت أنا الخبر، ولا احد يعلم متى تكون تلك القذيفة من نصيبي! انتهى بنا اليوم وأنا في فرحة مفعمة لتعرفي على جميع افراد عائلة زوجي وارتياحي معهم، وذهبت لبيتي المفترض أن يكون في المبنى الجانبي ضمن بناية من خمس طوابق، بيتي كان ما قبل الأخير، دخلت اليه فرأيته مليئاً بالشموع، لم يكن الوقت مناسباً لخلق أجواء رومانسية، ولم يتعمد زوجي ذلك، لكن انقطاع الكهرباء منحنا لحظات رومانسية وكأن القدر يهدينا استراحة عاطفية في وادي الجنون. وهكذا مضت ليلتي تحت القذائف، وكأنها بديل الألعاب النارية في حفلات الزفاف، أغمضت عيني وأنا تساورني فكرة مضحكة، لقد أُطلق في زفافي أقوى وأخطر ألعاب نارية في التاريخ.

قُرع الباب صباحاً لتأتي الحلويات بيد أخ زوجي، جلسنا بالقرب من غرفة النوم التي كان يحظر علينا الدخول إليها لوقوعها مقابل القلعة التي تنطلق أغلب القذائف منها. خلال تاولنا الحلويات سمعنا صوت انفجار قوي يهز المكان، ودخان كثيف حجب عن أعيننا هول المشهد. قذيفة استهدفت غرفة النوم هدمت الحائط وكسرت النوافذ، تطاير الزجاج إثر ضغط الانفجار. صرخ زوجي للنزول الى الطوابق السفلية. نزلنا إلى بيت أهل زوجي، استقبلونا بدموع مختلطة بالخوف والفرح لنجاتنا، علمت يومها أن تستيقظ كل صباح هنا حياً أمر يستحق الاحتفال.

مضى أول يوم من زفافي بقذيفة من الأسد حاولت قتلنا لأننا خرجنا عن عباءته، وكان زفافنا بدون تبريكاته ورعايته، لكنه لم يعلم أن جدار النور الذي خلفته قذيفته كان أقوى تأثيراً من وحشيتها، ما من قذيفة يرميها الإرهاب في المناطق المحررة إلا وتنشر رغم الموت والألم فسحة من أمل.