مخيم مبروكة يحتضن الفارين من جحيم داعش
مخيم مبروكة في الحسكة لإيواء الهاربين من بطش داعش تصوير حسان شداد
"كما لو أنّهن ولدن من جديد، تتنهد الناجيات من جحيم داعش. قطعن الأميال سيراً على الأقدام أو على ظهر الدواب وبواسطة الماشية. لم يُصدّقن أن الحرية عادت إليهنَّ. "
كما لو أنّهن ولدن من جديد، تتنهد الناجيات من جحيم داعش. قطعن الأميال سيراً على الأقدام أو على ظهر الدواب وبواسطة الماشية. لم يُصدّقن أن الحرية عادت إليهنَّ.
علياء (22 عاماً) من دير الزور بعد عدة محاولات باءت بالفشل، تمكنت من الهرب برفقة والديها المُسنين، بمساعدة أحد سماسرة التهريب. علياء دفعت مبلغ مليون و500 ألف ليرة سورية ثمن خروجها مع أهلها من دير الزور.
تقول علياء لـ”حكايات سوريا”: “كان علينا دفع مبالغ طائلة حتى نستطيع الخروج من جحيم الموت. من أشرف على إخراجنا هم أنفسهم من كانوا يرفعون شعارات الحرية والنصر”. علياء تعيش اليوم في مخيم مبروكة لنازحي دير الزور، وجدت فيه ضالتها وضمان حياتها، بعد أن كان الموت يترصدها في أكثر من مرة.
وتتذكر علياء ما جري معها: “دخل علينا تنظيم داعش كمن وجد غريمه مكبل اليدين فانهال عليه بالضرب المبرح ليموت ببطء، فيعيش لحظات حياته الأخيرة تحت العذاب ونزيف الدماء”. قتل التنظيم شقيق علياء لرفضه الالتحاق بهم، ومع فقدان أي أثر لإخوتها الثلاث، قررت العائلة ترك كل شيء واللجوء إلى الحسكة.
دموع رُبى كانت تُجسد حالتها ووجعها. تعرضت رُبى (12 عاماً) للضرب المبرح من ثلاث سيدات ينتمين إلى تنظيم داعش. تتذكر رُبا بعض الكلمات النابية قيلت لها “مُتبرجة وساقطة، ستصبحين راقصة في المستقبل، تلقيت تربية فاسدة ومنحرفة”.
كانت الدماء تسيل من رأسها، حين حضنتها والدتها التي لم تقو على الحركة والكلام سوى بجملة واحدة “اللهم أقبض أرواحنا فهو أرحم الحلول”.
وتقول أم رُبى لحكايات سوريا: “كانت أبنتي تعود من منزل جيراننا حين اعترضتها دورية لتعقب النساء المُتبرجات، كانت إحداهن ضخمة الجثة وبيدها عصا غليظة إلى جانب البندقية. ببراءة الطفولة كانت رُبى تنظر إليهن بذهول كبير، لم تكن تعرف ما ينتظرها”.
وتتابع والدة ربى: “نادت عليها إحداهن، وقبل أن تتكلم رُبى كانت الضربات والشتائم تنهال، ثم كسرت إحداهن ربطة الشعر التي على رأسها وقالت: ساقطة”.
عباد (52 عامأ) يبدي عشقه للتعرض لأشعة الشمس، تارة يخلع قميصه الوردي وتارة أخرى يجلس القرفصاء مواجهاً الشمس، مرتدياً نظارات من النوع الجيد. يقول عباد: “3 أشهر لم أر فيها الشمس، أقبية تُشبه الزرائب، رائحة الجيف والدماء البشرية تجعلك تتقيأ لا شعورياً”.
عباد تم اعتقاله على يد مجموعة أطلقت على نفسها أسم “مُلاحقة المرتدين” بتهمة الشرك بالله. تحدث عباد عن مراحل التحقيق قائلاً: “أدخلوني إلى مكان ما، مُغمض العينين ومكبل اليدين، بعد مرور وقت طويل سمعت صوتاً غليظاً أشبه بصوت الوحوش عرفت من لكنته إنه من دولة ليست عربية. قال لي: أنت مرتد وسنقيم عليك الحدّ وصمت”.
شعر عباد بدنو أجله، كان يتعرق بشدة على الرغم من برودة الطقس. عباد يعرف أسباب اتهامه بالردة وهو المواظب على صلاته وصيامه منذ 17عاماً. وحين بدأ التحقيق معه مُجدداً قال له المحقق: “لدينا تقارير تؤكد إنك تُصلي بدون وضوء، وإنك لا تتلو الآيات أثناء الصلاة، سنحفف عنك الحكم من الجلد حتى الموت إلى 100جلدة وغرامة مالية والحبس ثلاثة أشهر”.
عباد وبعد جلده وسجنه، باع كل ما يملكه في سبيل الخروج من المدينة. وهو يحلم باليوم الذي يعود فيه إلى دير الزور ويعود إلى عمله في بيع الأقمشة.
أحلام (30 عاماَ) أنهت تحصيلها الجامعي في علم الاجتماع من جامعة دمشق سنة 2010. تعرضت لضغوطات كبيرة كي تلتحق بالتنظيم، لكنها آثرت الاختباء في قنّ للدجاج في أحد بيوت الجيران أثناء بحث “الحسبة عنها” وهربت من دير الزور بعد دفع مبالغ كبيرة.
تقول أحلام: “حين وصلت إلى الحسكة تم أخذنا إلى المخيم، صحيح إننا لا نتلقى ما نحتاجه لكنه لا يُقارن بساحات الموت ولا يعلم أحدنا متى يحين موعد إعدامه. قررت الالتحاق بأسايش المرأة، وجدت لديهم ما يُنمي موهبتي والعمل على اختصاصي، أنا سعيدة بذلك”.
تتلقى أحلام راتباً استطاعت أن تستأجر بواسطته منزلاً في إحدى ضواحي الحسكة حيث انتقلت أسرتها من المخيم لتقيم معها. أحلام ستستقر في الحسكة حالياً، لكنها تحلم بذلك اليوم الذي تعود إلى مدينتها وتنتقم ممن تسبب بتهجيرها وتدمير مدينتها.
منى ذات الـ 15 ربيعاً أحدثت بلبلة وضجة كبيرا في مشفى راس العين قبل أن ينتهي بها المطاف في المخيم. لجأت أسرة منى في البداية إلى منزل أحد أقربائهم. وبعد إلزامها على لبس الجلباب في دير الزور، ارتدته خلال زيارتها إلى مشفى المدينة ما أثار فوضى عارمة وفزع بين المرضى والطاقم الطبي.
تقول منى: “دخلت إلى المشفى برفقة والدتي، تركتها في غرفة المعاينة وخرجت لأتفرج على المرضى، لم أكن أفهم لماذا يخافني الجميع، لم أجد نفسي إلا وأنا محاطة بمجموعة من الكبار يلبسون الزّي العسكري والأسود”.
تقدمت إحدى السيدات المتخصصات بالتفجيرات من منى وخلعت عنها البرقع ثم في إحدى الغرف بعيداً عن أعين المرضى، تم تفتيش منى بشكل دقيق بعد بلاغ عن طفلة ستفجر نفسها. تقول والدة منى: “لم أقدر على الحركة أو النطق، لا زال الخوف يعترينا من مجرد الحديث مع أي جهة عسكرية أو أمنية أو غيرها، كُنت أتساءل لماذا أخذوا ابنتي”. بعد أقل من ربع ساعة عادت منى إلى حضن أمها مُحملة ببعض الحلوى والبسكويت.
“سأضع الحمرة وأكحل عينيّ وأدخّن والبس ما يحلو لي، وسأخرج إلى المنتزهات وسأرقص في الأعراس وربما في الساحات، انتهى الكابوس”. تقول ميادة (21 عاماً) وهي تتخيل لحظة رجوعها إلى الجورة في دير الزور لتفعل كُل ما حرمت منه.
وتضيف ميادة: “لن أنسى إنني بقيت سنتين دون أن أضع ولو قليلاً من أحمر الشفاه. وأنا أخرج بالبرقع تارة والدرع تارة أخرى، سخافة التحشم وفق منظورهم لن أعيدها أبداً”.اضطرت ميادة إلى ترك جامعتها في دير الزور بعد أن منع داعش دراسة الحقوق والفلسفة واللغات الأجنبية.
تحلم ميادة يومياً باليوم الذي تعود فيه إلى كليتها. وتصر أن تلبس ما يُثير الشباب في أول يوم تواظب على دراستها مُجدداً.
كان تنظيم داعش قد دخل إلى دير الزور في منتصف 2014 بعد اغتيال أمير جبهة النصرة، ما أدى إلى فرار الآلاف من المدنيين إلى مختلف المناطق في سوريا، دفع ذلك بالإدارة الذاتية في الحسكة إلى إنشاء مخيم مبروكة عام 2016 الذي يضم حوالي 8 آلاف نازح.
وكانت قوات سوريا الديمقراطية بمساندة التحالف الدولي، وتدخل قوات النظام السوري من جهة أخرى قد قوضوا أركان التنظيم وحرروا أجزاء واسعة جدا من المدينة، ولم يبق سوى بعض المناطق بيد التنظيم، مع ذلك يفضل قسم من الأهالي التريث قبل العودة إلى منازلهم.