تل حميس تتنفس بعد خروج داعش

Tal Hamis map - Google

Tal Hamis map - Google

" أنتم لا تدركون حجم سعادتنا بعد انتهاء هذا الكابوس"، يقول الحلاق طه لحكايات سوريا: "من حقنا الاحتفال بأي طريقة كانت" بعد عامين من الفقر "

مظاهرُ الحياة في منطقة تل حميس جنوب مدينة القامشلي، أضحت تنتعش رويدا رويداً، ومع عودة الأهالي النازحين من القامشلي فإن المنطقة وقراها تستعيد عافيتها بوتيرة متسارعة. فبعد سنوات من التضييق الذي مارسه داعش على الأهالي عادت النسوة لشراء الخبز من الأفران، وعاد الأطفال للعب كرة القدم في الساحات بعد أن كان التنظيم يمنعها عنهم.
” لازلت اذكر تلك اللحظة، حين خرجنا بما نرتديه على أجسامنا ولم نتمكن من أخذ ولو جرابً لتدفئ أقدامنا” تتنهد عفراء 47 عاماً وأم لخمسة شباب استطاعت أن تهرب مع مجموعة من أهالي تل حميس قبل أن يحكم التنظيم قبضته على البلدة، وتقول لحكايات سوريا: سمعت جارنا أبا عدنان يصيحُ كالمجنون، ولا زلت أتذكر كيف كان الرعب يتملكه مصفر اللون والشحوب والقلق قد نالا من ملامح وجهه. صاح بنا علينا الهرب فوراً. ” خرجنا دون أن نعرف إلى أين، فقد بدأت فلول التنظيم تصل إلى البلدة”
استطاعت عفراء وأبنائها وعائلة جيرانهم من تأمين عربة نقلاً حتى مشارف مدينة القامشلي، دفعوا 5 أضعاف المبلغ المستحق للنقل من تل حميس إلى القامشلي، مع ذلك تقول عفراء ” لست نادمة على أي شيء، المهم أنني أنقذت أبنائي، فبعد وفاة والدهم قبل سبع سنوات، أصبحت أبا لهم” سكنت عفراء في احد دور الإيواء في المدارس الحكومية قبل أن يتم نقلهم إلى مبانً غير مكتملة على طريق مطار القامشلي
عفراء تعمل اليوم في إحدى المدارس التابعة للإدارة الذاتية كمستخدمة، تعيل أبنائها الذين يكملون دراستهم في المراحل الدراسية المختلفة.
لم يكن مسموحا للنسوة الخروج من المنزل بدون محرم، وفرض عليهن ارتداء الجلباب الواسع بحجة الحشمة وكونه اللباس الشرعي، وتطور الأمر إلى فرض لباس “الدرع” المكون من قطعة قماش تشبه أشارب الصلاة، لكنه أكثر سماكة وأطول حتى الركبة. وأي مخالفة لذلك يؤدي إلى العقاب الذي قد يصل إلى حد الجلد بمائة جلدة.
تنهدت شيماء وهي تتحدث عن والدتها التي تعرضت لأزمة نفسية بعد عودتها من مركزاً للتحقيق، عدّا عن جراحها المثخنة من الجلد المبرح “لازلت أذكر ذلك اليوم الذي قدمت والدتي فيه إلى المحكمة الشرعية، بتهمة الإخلال بالآداب العامة وعدم الحشمة. ” تمزقت قفاذات شيما بشكل يُظهر يديها بوضوح، وألزمتها والدتها تبديل بين قفاذيهما، في طريقهم إلى السوق أوقفتهم دورية شرطة متخصصة لتعقب النساء اللواتي يقُدمن على سلوك ” غير إسلامي” كما كانوا يروجون، ثم بدؤوا بشتم والدتها أمام المارة. تم وضعها في “فان أبيض اللون مفيم الزجاج”. تصف شيماء منظر والدتها لحظة عودتها إلى المنزل قائلة ” حين خلعت عنها الجلباب وفستانها الممزق، خلتُ إني أمام مشاهدً لفلم رعبّ لا مثيل له، فالكدمات التي في ظهرها جراء الضرب، والتشققات في يديها جراء الجلد واحمرار مختلف أجزاء جسمها أعتقد أن والدتي تعرضت للاغتصاب” نفت الوالدة ذلك لكن شيماء لا تزال تتخيل منظر والدتها وهي في مكان لا يعلمه أحد سوا تلك الدورية وعناصرهم من الوافدين وأبناء المنطقة المنطوين تحت لواء التنظيم.
عندما دخل داعش الى بلدة تل حميس، جلب معه أفكاره المتطرفة، وأصبحت أبسط مواضيع الحياة من أعقد واخطر المحرمات. وحتى الصلاة أصبحت من بين المواضع التي استغلها لفرض أفكاره وادلجته المتطرفة. لكن أهالي البلدة عادوا بعد سنوات مريرة لينزعوا السواد عن أنفسهم ويطردوا الأفكار المتخلفة التي جاهد التنظيم زرعها في نفوسهم
لازلت أذكر ذالك اليوم جيداً 17 كانون الأول 2014 حين كانت ماسورة المياه مكسورة واضطر زوجي لإصلاحها لعدم وجود غيره في المنزل بعد تمكن أبنائي الشباب من الهروب إلى الحسكة منذ بداية وصول التنظيم إلى قريتنا بالقرب من بلدة تل حميس. تقول ريحانة 51 عاماً كان التوقيت يشير إلى موعد صلاة الظهر، ولانقطاع الكهرباء حال دون سماع زوجي عمران63عاما لصوت المؤذن فتأخر بضع دقائق عن موعد صلاة الجماعة. في طريق العودة إلى المنزل أوقفته دورية بقيادة احد شباب القرية الذي انتسب حديثا للتنظيم وكان على خلاف شخصي مع زوجي بسبب تصرفاته اللاخلاقية السيئة في القرية قبل قدوم التنظيم. روى لي زوجي كيف أهانوه في “الحسبة” كان تارة يضحك وأخرى يتألم ليس لتورم ظهره بل كما قال ” أزلالهم للناس بحجة الإسلام” تم الزج بعمران إلى غرفة صغيرة لم يكن ثمة مكان لقدم بسبب كثرة الموقوفين لتهم مختلفة. بقي عمران والآخرون لحوالي الساعتين، حين فُتح باب النظارة وأمروا بالخروج رافعين أيديهم إلى الأعلى. تقدم إليهم رجلاً ضخم الجثة أعتقد زوجي أنه مغربي الجنسية بسبب لكنته، وأصبح يهدد ويتوعد كل من يتأخرن عن الصلاة أو ايداء الذكاء وغيرها من التهم ثم بدأ مساعده والذي كان واضحا من سحنته ولهجته أنه سعودي الجنسية كما قال لي زوجي، بدأ يتلوا على كل واحداً منهم عقوبته التي تبدأ ب25جلدة وتنتهي ب150جلدة. تقول ريحانة لحكايات سوريا ” لم استطع النوم في تلك الليلة فظهر زوجي كان منتفخاً جداً والدماء تسيل منه”
كان داعش يتفنن دوماً بابتكار أسوء وأبشع أساليب الحياة والعقوبات، فمنع النساء من التزين، ومنع الأطفال من لعب كرة القدم، وفرض على الرجال والشباب إطالة اللحى ومنع صالونات الحلاقة من وضع صور ترمز إلى موديلات قصات الشعر واللحى، ومنع إزالة الشعر من الخدود. لكن السواد زال مع زواله بعد معارك ضارية بينه وبين قوات النظام السوري تارةً، وقوات الحماية الشعبية تارة أخرى التي استطاعت أن تخرجه من البلدة بعد دعم من طيران التحالف في أواخر شباط/فبراير2015 بعد معاناة طويلة تنفس أهالي تل حميس الهواء النقي بعد عامين من الظلم والقتل باسم الإسلام
” أنتم لا تدركون حجم سعادتنا بعد انتهاء هذا الكابوس”، يقول الحلاق طه لحكايات سوريا: “من حقنا الاحتفال بأي طريقة كانت” بعد عامين من الفقر تعتبر مهنة طه من انجح وأكثر المهنّ طلباً ورغبة، خاصة خلال الشهرين الذين عقبى خروج داعش من البلدة حيث كان يستقبل يوميا حوالي 35 زبون، صغار وكبار
“نحن سعداء جداً بانتهاء هذا الكابوس”، يقول لنا الحلاق أحمد أبو أسامة، “نحن نحتفل بهذا الإنجاز”.
اليوم، طه هو أكثر الناس انشغالاً في البلدة، فلديه أكثر من خمسين زبون يومياً، صغار وكبار، منذ خروج داعش. وأصبحت النساء تزين وتستعملن أقلام الكحل وأحمر الشفاه، ويرتدي ما يرغبن به
صاحت أحدى المراهقات ” أنا سعيدة أصبحت أستعمل مزيل الشعر،فلقد كان منظري بالشعر الكثيف على وجهي مدعاة للسخرية والقرف. بعد أن نظفت وجهي وأزلت الشعر من جسدي أشعر بأنني أنثى ولست رجلاً
زاهد العمر 37عاماً مدرس مادة الفلسفة يقول لحكايات سوريا ” الحمد لله عدت إلى تدريس مادتي المفضلة بعد أن كانت محرمة لدى داعش، يضحك ويقول: تصوروا أخضعونا لدورة تأهيل تحت اسم استدابة” زاهد كان يشعر بمرارة الأيام في ظل حكم داعش، حتى الأسواق كانت أشبه بغرف مظلمة تفتقد للضوء، كذلك الأسواق كانت اغلب المنتجات ممنوعة، ويضيف زاهد: أصبحت أسواق تل حميس تعرض البضائع المختلفة من ملابس النساء وأدوات الزينة والتبرج ومحلات المكياج والمشروبات الروحية، وأصبحت النساء أحرار في الذهاب إلى الأفران وصالونات التجميل. ” تخيل أن تكون الزوجة ممنوعة من استخدام مساحيق التجميل حتى لزوجها” عشنا كابوساً والحمد الله أننا انتهينا منه باكراً.
أما المُسنة أم محمد التي تعيش بمفردها بعد وفاة زوجها وهجرة ولديها إلى الخليج منذ 2007 فإن أكثر ما استمتعت به بعد طرد التنظيم هو استمتاعها بالتدخين قائلة: ” الدخان هو بمثابة الحرية، والتحرر من داعش كمن يُدخن النفس الأخير من سيجارته قبل النوم”
يُقدر عدد أهالي تل حميس ب/20 ألف/ فرَّ معظمهم جراء دخول التنظيم إلى قراهم وبلدتهم، وعَقِبَ تحرير البلدة من قبل قوات الحماية الشعبية بمساندة جوية،عاد قسم كبير منهم، واثر البقية البقاء في القامشلي أو مختلف مناطق محافظة الحسكة، سواء لمتابعة أعمالهم أو بسبب دراسة أبنائهم في مدارس النظام السوري.