“ماما ليش عم يضربونا ؟؟”
لم تخلُ أيام المدينة من الأحداث، ولا من قصص الموت منذ اندلاع الثورة … لم تعد تحركاتنا في الشارع آمنة… لكن لا شيء يجبرك على الخروج من المنزل أكثر من طفلة لم تتجاوز السنة من عمرها وقد أتعبها المرض.
كان يوما هادئاً قياساً بغيره، توجهنا إلى طبيبة الأطفال. لكن دبابتهم لم تنتظرعودتنا إلى البيت، كانت تلك الدبابة بانتظار خروجنا من باب العيادة، وماهي إلّا لحظات حتى أدركنا أن الجيش قد اجتاح المدينة. استقبلنا بقذيفة لحظة صعودنا إلى السيارة، لكن قدرة الله أبقتنا على قيد الحياة، وبقينا لبعض الوقت لا ندرك مصيرنا، وأصوات الانفجارات تتعالى في آذاننا مع صوت صراخ الطفلة وتعابير الخوف التي تظهر على ملامحها.
التجأنا إلى بيت أحدهم ننتظر الهدوء حتى نعود إلى منزلنا. قدّر لنا بعد ساعات العودة إلى المنزل الذي لم يكن أكثر أمانا من االشارع. كانت الأصوات تقترب أكثر فأكثر، فوجئت بطفلتي ذات الثلاث سنوات تطلب مني الخروج من البيت، لم تعد تشعر بالأمان هنا. طلبت النوم تلك الليلة في بيت جدها، تظنه أكثر أماناً، لكن القناص أبى إلّا أن يكسر لها هذا الشعور، وألقى برصاصته تلك إلى مكان نومها. نجت بقدرة الله عزّ وجلّ، فما كان منا إلّا أن افترشنا بيت الدرج مكانا نحتمي فيه من القذائف والصواريخ التي تنهال على المكان. لم تمرّ لحظات على تواجدنا في ذلك المكان حتى بدأت الاصوات تقترب أكثر فأكثر وكان نصيبنا من الصوارخ ليس بقليل. انهالت الصواريخ على المبنى الواحد تلو الآخر، تحلّقنا حول بعضنا في ذلك المكان الذي لا تتجاوز مساحته المترين ، ستة أشخاص حول طفلتين صغيرتين.
لم يتوقف عقلي في تلك اللحظات عن طرح كل الاحتمالات. نحن أموات لا محالة. الصاروخ تلو الآخر، وزجاج النوافذ يتطاير والغبار يملأ المكان، لم أعد أرى من وجه أطفالي إلا عيونهم الخائفة المترقبة.
وبدأت أصواتنا تتعالى بنطق الشهادة لاننا أدركنا بأننا لن ننجو إلا بقدرة الخالق. لم يكن صوت الصواريخ مؤثراً في نفسي بقدر ذلك الصوت الصغير الذي سمعته ينطق الشهادة بيننا. سمعت طفلتي ذات الثلاثة أعوام تكرر معنا أشهد أن لا إله الا الله … تلك اللحظة أحيت الرعب في قلبي …
ياترى مَن مِن ابنتي سأفقد؟ هل ستبقى واحدة بمفردها حية وسط أموات في بناء خالٍ من السكان؟ لا وجود لمن يسمع صراخها. بدأت أقلب الاحتمالات في رأسي، احتمال دخول ذلك الصاروخ ليقضي علينا جميعاً في لحظة واحدة. شعرت بالخجل من عيونهم الخائفة وأنا أتآمر مع ذلك الصاروخ على حياتهم، عدّلت طريقة توزيعهم. عاد ذلك الاحتمال إلى رأسي بأنني وضعت إحداهن في زاوية أكثر أماناً من الأخرى، ياترى من هي التي ستنجو ؟
لم أعد أقوى على التفكير في تلك اللحظات … عمَّ هدوء مفاجئ المكان. سمعنا دعوات من البناء المجاور… تعالوا هنا أكثر أمناً … تسللنا جميعاً إلى البناء المجاور لنحتمي في طابقه الأرضي مع مجموعة من النساء والاطفال. دخلت ذلك المكان وأنا أحمل بعض الخبز واللبن. كنت قد تسللت إلى المطبخ ، خوفا على أطفالي من الجوع. فأنا لا أعلم كم من الوقت سأمضي في ذلك المكان، عيون الأطفال كلها كانت تحدق في ذلك الخبز.
تجمّع الأطفال حول ذلك الصحن المتواضع، شعور بالألم لم أتخيل أن عيشه مع أطفال بلدي وأطفالي يوماً . تفقدت ذلك المكان لأجد طفلة في إحدى الغرف، لم ترغب بالطعام كبقية الأطفال لأن شعورها بالألم كان أقوى من الجوع … طفلة في الرابعة من العمر تناثرت في جسدها شظايا الصاروخ. لم أرَ فيها سوى طفلتي قبل لحظات. بقيت معها لأخفف عنها بعض الألم فأمها مصابة أيضاً، وهي بحاجة لمن يطمئنها أنها بخير، لكن جسدها الصغير لم يقوَ على البارود وارتقت شهيدة إلى الجنة بإذن الله.
لم ولن أنسى تلك الطفلة التي استشهدت متأثرة بصاروخ استهدف منزلنا.
ولن أنسى سؤال صغيرتي في لحظة هدوء: “ماما ليش عم يضربونا ؟؟” ولم أجد له جواباً يشابه براءتها “ليش عم يضربونا !!!!!!”