يوم خسرت أم فراس زوجها وأختها

امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.

امرأة سورية تجلس بالقرب من أبنها الذي قتل بقصف لقوات النظام على أحياء مدينة درعا.

"ولم تشف نداء ابنة أم فراس من إصابتها في ظهرها، فقد رحلت بعد مرور عام على ذاك النهار ولحقت بوالدها وخالتها"

لم تسلم أم فراس (40 عاماً) وأختها أم أمجد (37 عاماً) من الغدر. اختارتا السكن في الأطراف الشمالية للمدينة في بيت أهلهما الذين نزحوا مع من نزح من أهل المدينة. كانتا تظنان أنه المكان الأكثر أمناً لأنه لم يتعرض للقصف كباقي المناطق منذ بداية الحملة لكن الهدوء تغير فجأة.

تقع داريا في ريف دمشق غربَ العاصمة بحوالي 8 كيلومترات، وهي قريبة جداً من حي المزة الدمشقي ومدينة معضمية الشام. ويتجاوز عدد سكانها الـ 255 ألف نسمة بحسب إحصاء 2007، بقيت تحت الحصار حتى العام 2016 .

داريا من أولى المدن التي ثارت ضد النظام السوري، بعد تعرض المتظاهرين في مدينة درعا للرصاص الحي. داريا التي كانت هدفاً لعملية عسكرية انطلقت في 20 آب/أغسطس 2012، وكان يوافق ثاني أيام عيد الفطر لدى الطوائف الإسلامية، واستمرت الحملة لمدة أسبوع كامل وحصدت أكثر من 700 ضحية ومئات الجرحى من مختلف الأعمار وعشرات المفقودين.

كانت أم فراس وأختها في ذاك اليوم المشؤوم تخبزان القليل المتبقي لديهما من الطحين. وقد تحلق حولهما الأطفال كل منهم ينتظر دعموسة (رغيف) من الخبز ليأكلوها ساخنة بمجرد رفعها عن الصاج. وبينما الأطفال على موعد مع الخبز الساخن سقطت قذيفة بالقرب من المنزل وبدأت أصوات الانفجارات تقترب.

ركضت أم فراس تلملم أطفالها ومثلها فعلت أم مجد وباقي الأمهات اللواتي لم ينزحن عن المنطقة. وبدأ الجميع بالركض إلى المناطق الزراعية للاحتماء بين الأشجار. المنازل والمباني غالبا الهدف الأول. مشهد ذعر لا يمكن وصفه. النساء تصرخ وبكاء الأطفال يعلو فوق صوت القذائف.

لم تتذكر أم فراس زوجها في تلك اللحظات، بعد أن أصيبت أختها إصابة بليغة أمام ناظريها. تحلق أطفالها حولها وقد علا صراخهم وهي تحتضر. كان آخر كلامها: “أختي أولادي أمانة عندك” ثم أسلمت الروح. احتضنت أم فراس أولادها وأولاد أختها.

لم تكن أم فراس قد تنبهت إلى غياب زوجها حتى صرخ أحدهم: “أبو فراس استشهد”. كانت الكلمات كالصاعقة. كادت تنهار، لكن الموقف يتطلب صلابة فأمامها أطفال ضعفاء يتقون بها. فقدوا أمهم منذ قليل. وأطفالها الذين سمعوا لتوهم معها نعي أبيهم مع عجزها كما الجميع عن التفكير أمام هول القصف.

بدأت تمسح على رؤوس الجميع بدون تمييز وتهدئ من روعهم. تلمست شيئاً ساخناً وهي تمسح على رأس وجسد ابنتها نداء ابنة الخمسة أعوام. نظرت إليها وتلمستها بعمق، إنها مصابة ويكاد يغمى عليها من شدة النزف.

لحظتها لم تستطع إدعاء القوة والصلابة وبدأت تصرخ وتستنجد. شباب الإسعاف الذين ورغم شدة القصف والخوف من القتل وقلة الحيلة والإصابات المحتملة، ركضوا مسرعين لنجدتها. حملوا الطفلة بين أذرعهم وذهبوا بها الى النقطة الطبية الوحيدة المتبقية في المدينة.

لم تستطع أم فراس الذهاب معهم. كان عليها أن تؤمن على باقي الأطفال. سيارات نقل عملت على نقل الأسر إلى مكان أكثر أمناً على ما قيل. وبعد وصول أم فراس والأطفال إلى منزل آمن وفرته العائلات الخيّرة. هرعت مسرعة إلى المشفى الميداني.

هناك رأت زوجها وأختها قد سجّيا مع باقي الضحايا بانتظار حضور ذويهم لوداعهم ودفنهم. ضمت رأس زوجها إلى صدرها كما ضمت بعدها رأس أختها. اختلطت دموعها بدمائهم الطاهرة. ولم ترفع رأسها إلا بعد أن ربت أحدهم على كتفها. استدارت لترى فراس ولدها البكر: “أمي سبقونا إلى الجنة فصبر جميل والله المستعان. نداء في غرفة الإنعاش تريدك”.

وتذكرت أم فراس ابنها الذي كان في عمله. قالت له: “فراس ياعمري الحمد لله أنك سالم”. وذهبت معه لترى نداء.
كانت إصابة نداء بالغة، وكادت أن تقتلها بسبب شدة النزف. أصيبت بشظية في رأسها وأخرى في رجلها وثالثة في ظهرها وهي الأشد. ولم تشف نداء ابنة أم فراس من إصابتها في ظهرها، فقد رحلت بعد مرور عام على ذاك النهار ولحقت بوالدها وخالتها.

ذاك اليوم قتل 9 أشخاص وجرح مالا يقل عن 20 بينهم أطفال ونساء. كان لكل منهم قصته المروعة التي لم يقدر لها ان تذكر، لكنها كتبت بمداد من دمائهم.

سارة محسن ( 50عاماً) من من الغوطة الغربية لمدينة دمشق. تحمل شهادة جامعية كانت تعمل مديرة مدرسة. متزوجة ولها 6 من الأبناء.