مسرح الجريمة في ليل الأشلاء

طفل يجر عربة صغيرة لتهبئة مياه لشرب

طفل يجر عربة صغيرة لتهبئة مياه لشرب

"كانت انقاض المبنى قد سدت الطريق، وإكمال سيرنا يعني ان تطأ أقدامنا دماء وبقايا أشلاء من كنا بالأمس نمسك بأيديهم، ونسير معهم، أو نرمي عليهم التحايا. "

في إحدى ليالي الشهر الثاني من عام 2014، نأى القمر بوجهه عنا، ونحن نجوب أحياء المدينة المنكوبة. لا خوف ينتابنا، الطرقات خلت من البشر، بخيرهم وشرهم.
لعلك تتخيل ذاك المشهد. هدوءٌ تام إلّا من صوت نعالنا. كأننا في قبر كبير، ومع ذلك لا داعي للخوف. حتى أساطير الجن والشياطين غابت عنا. لعل السبب، كما نعتقد، وجود الملائكة الذين أضفوا على الظلمات طمأنينة لم نعرفها في نور الشمس، وأُنس الناس.
في تلك الليلة طبعاً لم يكن ممكناً استعمال مصباح ولا حتى ضوء قداحة، خوفاً من كشف الموقع ما يؤدي إلى استهدافه بصاروخ أو قذيفة. إنّ أعظم ما تخشاه، هو التعثر بركام المنازل، وشظايا الصواريخ والبراميل الحادة.
كنا نستعين بعصا نتكئ عليها، ونتحسس طريقنا، ونمهّده ما استطعنا من صغير الأذى. نتمتم بأذكارنا وتسبيحاتنا، لا يكاد أحدنا يسمع همس الآخر، حفاظاّ على هذا الهدوء.
كان مقصدنا عيادة مريض، وقد مضى على سيرنا نصف ساعة. كان يكفينا لنصل ربع ساعة، لكن وعورة الطريق بسبب الحفر التي خلفتها القذائف والصواريخ، وتلال ركام المباني، حال دون سرعة وصولنا.
في ذاك الشارع العريض الذي فقد كل معالمه، ولم يبق لمبنى فيه من نافذة تطل علينا بجذوة من نور تؤنس وحشتنا، وقبل وصولنا إلى مقصدنا بثلاث منعطفات، وقفنا معاً فجأة نستوضح ذاك الشعور الذي هيمن علينا.
في تلك البقعة لم يكن الدفاع المدني قد انتهى بعد من انتشال جميع الأشلاء، بسبب دخول الليل. كانت انقاض المبنى قد سدت الطريق، وإكمال سيرنا يعني ان تطأ أقدامنا دماء وبقايا أشلاء من كنا بالأمس نمسك بأيديهم، ونسير معهم، أو نرمي عليهم التحايا. وبدأ استرسال ذكريات يوم مرير من أيام داريا.
كان ضجيج وضحكات أولاد أم فراس وأولاد أختها يملأ المكان عصر أمس. تجمعوا في الطابق السفلي، ظنّوا أن أسقفا عدة تبعدهم عن السماء المؤججة بالحمم.
ظنوا أنّهم بذلك بمأمن من مكر طائرات الإجرام، التي ألقت حمولتها من البراميل اليوم، على غير عادتها، بشكل مائل فأصابت قواعد وأعمدة المبنى، المؤلف من 3 طبقات، فأطبقت الطوابق العليل على السفلى، لتحول الأجساد الفتية لمن في الأسفل إلى أشلاء مختلطة بالركام.
أما الأم والأخ الفدائيان اللذان صعدا الى الطابق العلوي لتحضير الطعام، فقد أخطأتهما البراميل، لأنهما لم يسمعا أزيز الطائرة لارتفاع صوت الموقد بجانبهما، فبقيا مكانهما ولم ينزلا للاحتماء مع الباقين .
تجرّعتْ أم فراس في تلك الساعة حسرةً ثانية، أشد مرارةّ من الأولى لقد انحسر الغبار ودخان البارود عن خمسة قتلى، 4 منهم من عائلة أم فراس، وجرح 9، مع دمار هائل في المبنى والأبنية المجاورة له.
أسرعت فرق الاسعاف لانتشال الجرحى والقتلى، واكتظ المركز الطبي بالناس، وعلت أصواتهم بين باك ومهدئ ومواسي، أما أم فراس فلم أتعرف عليها إلّا من صوتها. وجهها يكسوه غبار البراميل الممتزج بدماء أولادها، حين مرّغت رأسها بصدورهم.
كنت أراقبها وأنا لا أملك مدمعي أمام تلك المشاهد. لقد كان تصرخ وتبحث عن أولادها وأولاد أختها الأيتام، بين الشهداء والجرحى. كانت تصرخ: “يا أختي سامحيني، لم أستطع حمايتهم”. ثم تجذب رأس ابنها لصدرها: “لماذا لم تنتظر حتى أحضر لك الطعام، كنا متنا سويا. والله كسرت ظهري يا فراس”.
كانت تركض باحثة عن نداء، التي لم يتمكنوا بعد من إخراجها من تحت الأنقاض، لكنهم أكدوا موتها، وتتمسك تارة بالطبيب وتارة بالمسعفين، تتوسل اليهم أن يخبروها ماذا حلّ بنداء.
أم فراس فقدت زوجها وأختها، وأصيبت ابنتها الصغيرة نداء في غارتين منفصلتين خلال أقل من عام. ها هي تفقد اليوم ابنها فراس الذي كان عزاءها بالأمس، ومعينها في إصابة ابنتها، وتودع معه نداء واثنين من أولاد أختها، ليبقى ابن أختها أغيد وحيداً، مصاباً عدة إصابات أقعدته عن الحركة.
أغيد حين صحا من غيبوبته، رأى أخاه أمجد قد سُجّي على سرير بالقرب منه، وقد لُفّ بأكفانه فصاح باكياً: “أمجد لا تتركني”. كتب لهذا المشهد الحفظ في ذاكرة من غصّ بهم المركز الطبي من أطباء ومسعفين وضحايا.
حاولت أم فراس حماية أولادها وأولاد أختها من هذا المصير الأليم. عملت مراراً على إخراجهم من داريا عبر طريق المعضمية، المدينة المجاورة لداريا من جهة الشمال، بوساطة الهلال الأحمر، لكنّها فشلت.
في إحدى المرات أطلق حاجز الجيش عليهم النار وهم بين أشجار الزيتون، وتراكض الناس هلعين و ركضت معهم لا تلوي على شيء إلّا النجاة بالأولاد، فنسيت أكياس ملابسهم، وقضت عدة أيام بعدها تسأل عن ثياب بدل ما فقدته.
انتبهنا من غفوتنا، وعرفنا أننا توقفنا اجلالا لتلك الأشلاء التي انتشر عبقها، وكأننا نرى في كل زاوية ملكاً، يحمل بين يديه أكفان تلك الدماء والأشلاء، ليعرج بها لإلى السماء، حيث المحكمة العادلة والراحة الأبدية.
ثم همس صاحبي في أذني وكأنّه يخاف تعكير صفو من رقدوا: “لنعد ونسلك طريقا آخر”.
سارة محسن ( 50عاماً) من من الغوطة الغربية لمدينة دمشق. تحمل شهادة جامعية كانت تعمل مديرة مدرسة. متزوجة ولها 6 من الأبناء.