قتلوا صديقي ولا يحق لي أن أحزن
Two women walk through the al-Shaar neighbourhood. Photo by : Hussam Kuwaifatieh
في الحرب إياكِ أن تتخذي صديقاً، يمكنكِ أن تكوني أمّاً، أختاً، زوجة، حبيبة، لكن لا تكوني صديقة.
دعيني أخبرك قصّة فتاة في التاسعة عشرة من عمرها لتفهمي لماذا عليك أن تأخذي بنصيحتي. أتعلمين كيف تكون الفتاة في التاسعة عشرة من عمرها؟ إنّه ربيع العمر الذي تتخيّله شتاءه، إنّه شغف أولى سنين الجامعة، إنّه الكعب العالي وحرق المراحل بمساحيق التجميل.
كان العدل يقتضي أن تكون أقسى مواجهاتها مع الموت يوم أخذ جدّيها، لكنّه “استحلى” صديقها وكيف له ألّا يستحليه؟
كانت قد غادرت حلب بعد احتضار جامعتها الطويل، حر، نظامي. تتالت الحواجز في الطريق إلى سراقب حتى أُغلقت أبوابها حتى إشعار آخر. لم تكن الثورة قد وصلت إلى حيّ منزلها بعد، غادرت من مطار حلب إلى مصر، بحقيبة تكفي 15 يوماً امتدّت لتصبح 90. واجهت خلالها الملل، القلق، الإحساس بالذنب، بالعجز، بالخجل، حتى واجهت الفجيعة، وهذا أيضاً أمر ليس من العدل أن تواجهه فتاة في التاسعة عشرة من عمرها.
“إنّا لله وإنّا إليه راجعون، الفاتحة لروح المرحوم 4 أيلول/سبتمبر 2012” وشريط أسود بليد على صورته. تقفز كالمجنونة من صفحة لأخرى، ومن منشور لآخر، تكذّب الخبر وتطلب من أصحابه الكفّ عن المزاح، وتصرخ في وجه المصرّين على قراءة الفاتحة والاستهداء بالرحمن.
ساعة كاملة جلست صامتة إلى جانب الهاتف، تضغط زر إعادة الاتصال وتستمع لذلك الصوت البارد يطلب منها إعادة المحاولة، وتعيدها، ولا يرفع السماعة ليخبرها أنّها على حقّ، وأنّهم جميعاً كاذبون. تدخل الحمام وتقفل الباب، تنهار تماماً، كل جدران الأرض تنطبق على صدرها، وتبكي، تبكي، تقرع إحداهن الباب بانفعال، أتعلمين لماذا؟ إنها خائفة من أن يتلبّس البيت عفريت بسبب بكائك في الحمام، فحسب تعبيرها “البكاء في الحمام ليس جيّدا من أجل المنزل”.
وأنتبه إلى أنني لست في منزلي، لست في مدينتي، لا يمكنني النزول الآن والبحث عنه في شقة سيف الدولة، التي رجوته أن يخرج منها، إنني لست في منزلي، وأمي ليست معي، وأنا فتاة التاسعة عشرة التي فجعت بصديقها. عامر مات.
حسناً عليك أن تفهمي أنّ عامر لم يمت، ولم يستشهد، عامر قُتل، لقد قتله القناص، كان جالساً في منزله، سحب القناص الزناد عن سبق إصرار وترصّد ليأخذ مني صديقي، وماذا ترك لي؟ تقرير الطبابة الشرعية الذي لا يصلح إلّا لتنظيف نوافذ الدوائر الحكومية اللزجة ككذبة الموت.
ماذا اكتشفت فتاة التاسعة عشرة؟؟ أنه ليس من حقها أن تحزن، ليس فقط المنزل سيركبه عفريت من بكائها، العالم كلّه سيركبه عفريت من حزنها، قريبتها ستملك جرأة التهامس حول طبيعة العلاقة التي تربطها به، فليس طبيعياً كل هذا الحزن على مجرّد صديق، عرش الرحمن سيهتزّ من حزنها باعتقادهم، عشرات الرسائل تطلب منها توحيد الله والإقرار بمشيئته، زملاؤها يتوزعون رهاناتهم التي فازوا بها على سرية الارتباط الذي أثبته حزنها، والشاب الذي أحبّها يوماً لن يتصل لتعزيتها، إنه مقتنع أنها وضعت صورته بغرض إغاظته. أضحك وأنا أقول هذا، هل يمكنك تخيل كل هذا؟؟
إنّهم يسرقون حقّك في الحزن، لست أم الشهيد لترتقي لمرتبة القداسة، لست أرملة الشهيد، لست حبيبته ليكون لحزنك رومنسية سوداء يحبّها الجمهور، إنك مجرّد صديقة.
إنك الفتاة التي طلبت منه التوقف عن التدخين ودخّنت كل سجائره بعده، إنك الفتاة التي لا يخجل البكاء أمامها، إنك الفتاة التي تشبه آخر عنقود أسرته شكلاً ومضموناً، وتلك التي يستحمل غناءها لذات المقطع من الأغنية مراراً بصوتها الرديء، وينسى عيد ميلادها لأنه يعرف أنه لا يهم.
إنها تفاصيل لا تغري أحداً، لا تشبه السهر عليه مريضاً، أو مشاهدته نائماً، أو الإمساك بيده للمرة الأولى وتمثيله الاقتناع بأنها اليد الذكورية التي تلمسها، إنها تفاصيل لا يفهمها من لم يعشها في أشدّ أوقات حاجته للأمان.
عليك أن تجتازي وحدك دهاليز الاكتئاب الحقيقي، لأن أحداً لن يعترف بمرض فتاة في التاسعة عشرة من الحزن، وعليك أن تعيشي يوم تخرّج دفعته دونه وحدك، وتلتقطي صور تخرّجك الناقصة دائماً فرداً، وتهادني الرغبة التي تنخر قلبك باستمرار بتشييعه، كما يليق به، لوحدك، دائماً لوحدك.
حسناً، هل تعرفين شعور الخروج في مظاهرة في جامعة إيبلا؟ إنها مساحة مسوّرة بالكامل بالمخبرين والشبيحة، ومحاصر من كل الجهات، عليك أن تعبري حاجزين للنظام بعدها في باص الجامعة قبل أن ينكسر حاجز الخوف من الحواجز بالكامل، وليكتمل الحظ مرتدية سترة حمراء. لكنني لم أتردد بالهتاف للحرية وعيني على الطابق الأول حيث يقف عامر، يدخّن بهدوء، يهتف أحياناً، غاضباً مني، سعيداً بي، وموجوداً، كان موجوداً وذلك ما كان يعنيني كي لا أخاف.
أقول لك إن الصداقة فعل أشنع من الحب في بلادي، إنها قادرة على تحويلك إلى كهلة في التاسعة عشرة إن لم تكوني حذرة، ستخترع لك فوبيا موسيقى الهاتف المقفل، وهوس اسمه، وتحوّل الذهاب إلى جامعة خالية منه إلى تعذيب حقيقي. ستورثك البحث عن وجهه في كل الوجوه، ويوم تجدين وجهه، ستحجّين أربع مرات بين الرازي والحمدانية غربي في باص النقل الداخلي الصغير، متأملة وجه المعاون وهو يصرخ “غربي.. غربي.. حمدانية غربية” من فم عامر، مغترّاً بنظراتك إليه، ومشفقاً على دموعك في سعيك الأخير.
إنّها أربعة أعوام الآن، ولن أغفر لك يوماً رحيلك، عزائي أنك نجمتي، تهمس في لحظات كآبتي العميقة أنا هنا، ولا يمرّ يوم لا أفكر بك فيه، لا تمر مناسبة دون بكائي لغيابك، ولا يمرّ خوف دون صورتك في الطابق الأول، عالياً، بالكنزة الكحلية، تدخّن، غاضباً، فخوراً، وموجوداً.
وأكتب اليوم بصحّتك.
بصحّتك لأنك لم تطفئ يوماً سجائرك في كفي.
بصحّتك لأنك أشعلت الفوانيس التي تبرق في عيني.
بصحّتك لأنك حقيقي وحيّ في هذا العالم السخيّ بالمسافات.
وأكتب بصحّة السلام الذي فيك، السلام الذي تركته فيّ، وبصّحة أنك حيّ وحيّ في منفاك البعيد
وبصحّة بهائك المضاد لرصاص أبرع القناصين.
فرح يوسف خريجة علوم سياسية وعلاقات دولية كانت مقيمة في حلب حتى تشرين الأول/أوكتوبر 2016. تقيم حالياً في فرنسا.