طريق العشق والثورة
لم يكن من السهل إقناع أهلي بالموافقة على زواجي من ضابط في الجيش الحر، وذلك لعدة أسباب أهمها عدما قدرته على المجيء إلى الشام لإتمام هذا الزواج بشكل طبيعي. هو كان يرابط في الريف الشمالي في حلب. لم يكن اعتراض الأهل على شخصه وطبيعة عمله، بل على ظروفه و وضعه الصعب. ولكن بعد بضعة أشهر من الإصرار والإقناع وتمسّكي القوي به، خضع أهلي لرغبتي واحترموا قراري.
بدأت بتجهيزات السفر وتحضير ما يلزم، أصرّت أخواتي على إقامة حفلة لأرتدي فستان الحلم الأبيض، ولكي يودعني الأقارب والأصدقاء. كان عرسي مثل كثيرات بدون عريس الزين. نصف فرحة، كرسيّ فارغ بمنصة العرس كلما نظرت إليه انتابتني غصة غيابه. أختي لم تستطع الحضور من عمان بسبب الظروف. أخي لم أستطع توديعه إلا على الهاتف حتى لا يتعرض للاعتقال لأنه مطلوب لفرع الأمن السياسي .
رحت أشغل نفسي بلهفتي للقائي به حتى لا يقتل الحزن فرحتي. أحزم أمتعتي التي اختصرت الكثير منها، ولم أستطيع الاستغناء عن الكثير منها أيضا. رافقتني أمي في السفر فلم يكن آمناً أن يرافقنا أحد من إخوتي الشباب، بسبب التدقيق والحواجز الكثيرة التابعة للنظام. كانت الإنطلاقة بطيئة ومثقلة بهموم المجهول والخوف من سفر سيطول 12 ساعة، مع أم أتعبها الديسك وارتفاع ضغط الدم.
طلب معاون السائق أن أفرغ حقائبي من العطور والأدوية حتى لا يتنبه جهاز التفتيش، والمكياج والأدوات الكهربائية كالسيشوار حتى لا يتعرضوا للسرقة. كان حاجز قطنا أول حاجز، بدأ العنصر بتفتيش عصبيّ للأمتعة، والتدقيق بالهويات. سألنا ضابط الأمن عن وجهتنا. أجبته عفرين، كونها تابعة للأكراد المتهمين بالتعاون مع النظام، لم يعجبه الجواب أو لم يقتنع به. سلمنا هوياتنا وانصرف.
توالت الحواجز، كم كانت كثيرة ومتنوعة بتفتيشها أو عدمه، بتدقيقيها على البطاقات الشخصية أو النظر اليها بسرعة. ما كان يؤخّرنا، إضافة إلى طول الطريق، سوى الطلب من شاب كان معنا النزول عند كل حاجز، واستجوابه ما لا يقل عن نصف ساعة، لأنه غير ملتحق بالخدمة الالزامية بسبب التأجيل. وطبعاً كان في كل مرة يجهّز مبلغاً من المال قبل نزوله حتى لا يحتجزوه، فورقة التأجيل القانونية لا تكفي لينجو من طمعهم.
سأله أحد الركاب ممازحاً: هل وصل المبلغ للمئة ألف؟
فرد بعصبية: تجاوزت هذا المبلغ قبل هذا الحاجز بحاجزين .
كنت أحاول جاهدة أن أشغل نفسي بالتفكير به وبلقائنا. ولكن منظر الدمار والخراب، وآثار القصف كانت تشدني فوق إرادتي، لتمتزج فرحتي بحزني، وأملي بيأسي، وأماني الذي أنتظره بشتاتي وخوفي.
عندما أخبرنا معاون السائق أننا اقتربنا من آخر حاجز للنظام، انتابتني فرحة وراحة، وأخيراً… صعد رجلا أمن إلى الحافلة، يتفقدان الهويات، حين وصل أحدهما إلينا أطال النظر بنا وبهوياتنا، وأكمل التدقيق مع بقية الركاب دون أن يعطينا بطاقتي الهوية، بل مررها لزميله، وبعد النظر وعلامات الاستفهام التي ارتسمت على وجهه، بدأ بوابل الأسئلة وأنا أجيب محاولة أن أكون هادئة وطبيعية.
-إلى أين تذهبن؟
– لعفرين
– لماذا ؟
– للزواج فخطيبي مقيم هناك.
– ما اسمه ؟
– حسام شمو (اسم زميل كردي كان معي بالجامعة)
-أنتو شوام وطالعين لعفرين ؟!!
– نعم طالعة أتزوج …
وفجأة طلب حقيبة يدي ليفتشها، وعندما رأى جواز سفري صاح ضاحكاً بسخرية: – شو طالعة لعند أوردغان؟
– طبعا” لا
– لماذا جواز سفرك معك؟
– أنا ذاهبة للزواج ومن الطبيعي أن آخذ كل أوراقي ومستنداتي الخاصة، على كل حال خذه ان أردت …
كنت ما زلت محافظة نوعاً ما على هدوئي، إلى أن طلب هاتفي النقال. هنا ارتبكت وبدأت أطرافي ترتجف، أعطيته الهاتف وكأني أعطيه ورقة الحكم عليّ بالإعدام، رحت أضغط على يد أمّي التي تتمتم بالدعاء وقراءة القرآن. كنت قد حذفت معظم محادثاتي، ولكن ما كان يقلقني أن يقرأ حالتي على تطبيق الواتس أب “ضد كل أعداء ثورة الحرية والكرامة”. كلّما حرّك أصابعه على شاشة الهاتف، كنت أتصبّب عرقاً وخوفاً وذعراً. بعد وقت أحسست أنه دهر أعاد لي الهاتف. أبتسم بوجهي الذي تلون بكل ألوان الخوف، وما إن غادر الباص حتى اتكأت برأسي على يديّ أحاول أن أهدّئ نفسي وأقاوم البكاء على هذا الموقف الصعب .
وما هي إلّا عشر دقائق حتى توقف الباص، ليطلب السائق ومعاونه أن ترجع النساء للخلف ويجلس الرجال بالمقدمة. سألت مستفسرة فأجابتني صبية وهي تغطي وجهها: “لقد وصلنا لحاجز للنصرة” وأكملت “ارتدي العباية وغطي وجهك”. كنت مدهوشة وخائفة معا” ، لا أملك عباءة ولا غطاء لوجهي. جلست بارتباك ووضعت حقيبة كبيرة على ساقيّ، حتى لا يلحظ أحد البنطال الذي أرتديه؟ طأطأت رأسي محاولة تغطية وجهي، وقصص فظائعهم التي يتداولها الركاب تقفز لأذنيّ.
صعد الشاب بلباسه الأفغاني ولهجته العربية الغريبة، وبعد أن ألقى نظرة تفقدية، بدأ بخطبته العصماء، عن اللباس الشرعي للمرأة، ووجوب تغطية وجهها في زمن الفتنة عقابها إذا لم تلتزم به. وتابع عن ضرورة مرافقة المحرم للمرأة أينما ذهبت. وبدأ يسأل بعضهن أين محرمك؟ تمنيت للحظات أن يسألني لأقول له: ماذا تفعل المرأة إذا كان كل الرجال الذين لا يجوزون لها، إما مطلوبين أو معتقلين أو مستشهدين أو مفقودين؟ ماذا تفعل عند اضطرارها للسفر؟ لكنه لم يسألني، وانتابتني راحة لأنه لم يفعل حتى لا يرى ما أرتدي ويقيم عليّ الحد. صوت بداخلي كان يصرخ هيا انزل. اتركنا بسلام. هيا ارحل. ودعني أصل سالمة إليه.
لم اعرف بأيّ الحاجزين خفت أكثر، النظام أم النصرة؟ كنت فقط أعرف أنني أريد الوصول بسرعة وبأيّ شكل. ما أطول الطريق، ما أصعبه، ما أوجعه. بدأت أستعيد شيئاً من نشاطي وحماسي عندما علمت أننا اقتربنا من نقطة الوصول. رحت أحسّن من هيئتي وأخفي شحوبي ببعض لمسات من مستحضرات التجميل. وقف الباص عند خط النهاية لهذه الرحلة المضنية، وبداية لحياتي معه. نزلت بقدمين مثقلتين، وجسد مرتبك ودموع تأبى أن تنزل. عندما استقبلني معانقاً، أصبحت رحلتي إليه مجرد ذكرى.
ميرفت خليل (36 عاماً)، تحمل إجازة في الصحافة من جامعة دمشق كانت تقيم في الشام٫ حيث كانت تعمل في مجال الإعلان والدعاية .تعيش الآن في ريف حلب الشمالي مع زوجها.