ربما لم ينتهِ الأجل بعد

قبل الثورة لم يكن الكثيرون منّا يعرفون أسماء المحافظات والمدن التابعة لها، ولكن بعد الثورة بتنا نعرف جميع المحافظات وتضاريسها من خلال متابعتنا لمجريات الأمور والأحداث.

كانت في محافظة درعا شرارة الثورة الأولى، عندما كتب الطلاب على جدران مدرستهم شعارات ضد النظام وظلمه، وذلك أسوة بالثورات المباركة التي سبقتنا. وكانت مدينتي الحبيبة داعل من أوائل المدن التي انتفضت لنجدة أهالي درعا المحاصرين والمستغيثين.

أذكر جيداً حين بدأت المساجد في المدينة تكبّر وتطلب العون والامدادات العينية (من طعام ومياه ودواء) لأهلنا في درعا. كنت بفضل من الله من الذين خرجوا فوراً أنا وأبنائي، فاشترينا ما أمكننا شراءه من مواد تموينية. عبّأنا المياه الصالحة للشرب، وعند وصولنا إلى المسجد كان الموقف مهيباً ومبكياً في الوقت نفسه. كان معظم سكان مدينتي يصطفّون بطابور طويل، وذلك من كثرة الذين لبوا النداء. وقفت جانباً أراقب المعنيين بالأمر يستلمون المواد من المتبرعين، وتنظيمها لإرسالها لأهالي درعا.

سيدة تمشي وتحمل في يدها كرسي قرب حي مهدم في حلب القديمة. تصوير حسام كويفاتية

وكيف لي أن أنسى أول شهيد من مدينتي. كان أحد المدرّسين المحبوبين، كان يحظى باحترام وتقدير الجميع في المدينة. جابت جنازته عند تشييعها طرقات المدينة بأسرها، خرج فيها جميع الأهالي كبيرهم وصغيرهم. ملأت الزغاريد والهتافات فضاء المدينة.

كان هذا قبل أن يضع النظام أكثر من 13 حاجزاً لقطيع أوصال المدينة. حيث بتنا ندفن شهداءنا خلسة عن النظام وعيون جواسيسه، خوفاً من أن يقصف مسيرات التشييع، وقد عشنا التجربة وكنا بتشييع شهيد فأصبحنا بتشييع شهداء.

وبات من يريد الذهاب إلى حارة أخرى لقضاء أي مصلحة أ و لزيارة أقاربه يمرّ بأكثر من حاجز ونقطة تفتيش. وبذلك حرم النظام الأقارب من زيارة بعضهم للاطمئنان، وهم يقطنون المدينة نفسها خوفاً من الاعتقالات والتنكيل بهم. وأصبح  الدخول والخروج من وإلى درعا ضرباً من التحدي لأي شاب أو رجل، لأن الاعتقالات لم تكن قد طالت حينئذ النساء.

شاءت الأقدار أن يوضع حاجز على مقربة من بيتنا، إلى جهة الشرق يدعى حاجز الناحية. وكان يقابل غرفة نومنا التي لطالما أحببت المكوث فيها. هذا الحاجز لطالما كان مصدر قلق وإزعاج لنا وللحارة بكاملها. في إحدى الأمسيات أطلق الحاجز النار دون سابق إنذار وبلا سبب، وبالطبع هو لا يحتاج إلى سبب، يكفي أن يشعر عناصره بالضجر، أو يكفي أن يقوموا بالمراهنة في ما بينهم على شيء ما، حتى يفتحوا النار وكأننا بجبهة حرب. حين سمعت صوت إطلاق النار هرعت خارج غرفتي، وجلست مع أبنائي في الصالون الذي كان يتوسط بيتنا، بمعنى أنه كان محميّاً من الجهات كافة، لذلك كان المكوث فيه أفضل سبل الأمان في ليالي كتلك الليلة. وعندما هدأ الصوت، دخلت غرفتي لأتفقدها، فتحت خزانتي فإذا بي أرى ثيابي ممزقة ومبعثرة وشظايا خشبية تتطاير في كل مكان، كانت طلقة رصاص قد اخترقت إطار النافذة ومن ثم الخزانة ومزقت كل مافي طريقها. دهشت من هذا المنظر، وأصابني الرعب، لم أكن قد اعتدت بعد على رؤية الرصاص، فكيف بدخوله بيتي. خرجت على الفور لأنادي زوجي، كان يتفقد والدته التي تسكن في نفس البناء، أريته ما فعلت الرصاصة بالملابس المعلقة. وقفنا بجانب بعضنا، كنتت أشرح له كيف اخترقت الرصاصة النافذة ومن ثم الخزانة، وإذا برصاصة أخرى تمرّ بيننا وتستقر أيضا بالخزانة، ولكن هذه المرة من النافذة الأخرى. وفعلت كما فعلت الأولى. نظرنا ببعضنا البعض وقد خفضنا رأسينا، وزحفنا فوراً خارج الغرفة. كيف حدث هذا؟ بدأنا بالتساؤل، لم تكن هناك أصوات إطلاق نار، من أين جاءت هذه الرصاصة؟ وكيف مرت من بيننا بسرعة الضوء؟ وكيف لم نصب بأذى؟ وبدأنا نتحسس أجسادنا هل بالفعل لم نصب بالأذى؟ أم أن شعورنا بالدهشة والاستغراب فاق شعورنا بالألم؟ لكننا سرعان ما أدركنا بأن هذا لطف الله بنا وبأن بالعمر بقية.

بعد هذه الحادثة قمنا بوضع حاجز وساتر من الحجارة على نوافذنا، وكافة الجهات المكشوفة والمطلة من جهة الحاجز. ولم ينتهِ دخول الرصاص إلى بيتنا. فكلما تقدمنا خطوة يسبقنا النظام بخطوات. أصبح هناك رصاص يخترق حتى الإسمنت والجدران. وازدان بيتنا بالرصاصات التي اخترقته من كل صوب وزادته جمالاً.

بقيت غرفتنا حكراً على هذا الحاجز، لا نستطيع أن ندخلها متى نشاء. إلى أن جاء اليوم الموعود، وتحررت فيه مدينتنا الحبيبة، من كل تلك الحواجز. صحيح أن الثمن كان غالياً جداً، واستشهد خيرة شباب البلدة بهذا التحرير. ولكن الحرية تستحق أي ثمن مهما كان، ومن جرب العبودية يعرف قيمة الحرية. وكما قال الشاعر أحمد شوقي: وللحرية الحمراء باب      بكل يد مضرجة يدق.

بعد التحرير ارتحنا من أصوات الرصاص وأزيزه، لكننا بتنا نخاف من القذائف والراجمات والصواريخ والطائرات. فما قلت النظام كان دائما يسبقنا بآلاف الخطوات، ولكن بإجرامه.

بانتظار تحرير وطننا الحبيب كاملاً، وكلنا يقين أن الظلم مهما طال فلا بد بالنهاية أن يزول وتشرق شمس الحرية.

هالة الحمصي (42 عاماً) متزوجة وأم لولدين، كانت تعمل في مجال التعليم خسرت عملها بعد الثورة واضطرت للهجرة منذ ما يقارب العام.