المعتقلون والمفقودون ليسوا أرقاماً

خرج ابن عمتي من المعتقل، ذهبت للإطمئنان عليه. صحيح أنه فقد بعضا من وزنه، لكنني وجدته بخير، هكذا قلت لزوجته، لكنها سرعان ما نبّهتني بألّا أنخدع بمظهره هذا، فهو يخبّئ خلفه حزناً وألماً وعميق الأسى.

أخبرتني زوجة ابن عمّي عمّا ينتابه من كوابيس أثناء نومه. كيف يستيقظ مذعوراً ويبدأ بالبكاء من شدة وهول ما لاقى وعانى أثناء إعتقاله. كانوا يكبّلون المعتقلين ويعلّقونهم من أيديهم، ويتركونهم هكذا حتى الصباح، ناهيك عن الضرب والإذلال والتجويع.

خرج هو لكن بقي العديد من المعتقلين في تلك الزنزانة التي بالكاد تتسع لهم وقوفاً. عند خروجه حمّله الأصدقاء في المعتقل عدة أرقام هواتف لعوائلهم، تمنّوا عليه أن يتصل بأهلهم ويطمأنهم على أولادهم بأنهم لا يزالون على قيد الحياة وبخير. نعم لقد كان سعيداً بعودته إلى أولاده وزوجته، وأمه التي لا تملك من الدنيا سواه فيما يعيش أخاه في الغربة. لكن الفرحة لم تدم طويلاً فبعد فترة ليست بطويلة، ذهب في الصباح الباكر ليحضر لأولاده الخبز، ولم يعد. أفاد بعضهم أن العناصر عند أحد الحواجز أوقفوه واعتقلوه. لأي ذنب؟ لإحضاره رغيف خبز لأبنائه؟ نعم رغيف الخبز الذي بات مغموسا بالدم والموت في بلدي سوريا. مضى على إعتقاله عامان، وإلى الآن لا نعلم عنه شيئاً. بعضهم قال أنه تمت تصفيته من قبل أحد الحواجز، والبعض الآخر يقول أنه أقتيد لجهة مجهولة. حاولنا كثيراً أن نقتفي أثره لكن بلا فائدة.

أمه وزوجته وأولاده حتى الآن يتضرعون إلى الله بالدعاء بأن يكون على قيد الحياة، علّهم يرونه في يوم من الأيام .

سيدة تعمل بائعة خبز في حي طريق الباب في حلب. تصوير حسام كويفاتية

قصة إبن عمتي لا تختلف كثيرا عن قصة زميلة كانت تدرس معي في المرحلة الإعدادية، التقيت بها صدفة مع زوجها، الزمن غيّرها كثيراً، بدت أكبر من عمرها من شدة ما لاقت وعانت في هذه السنين. وبدأت تقص علي قصتها وكيف اعتقلوا ولديها. كانا في ريعان شبابهما، الأول اعتقلوه من جامعته في حلب. كان من المتفوقين وجرى تكريمه، وبعد التكريم اقتيد إلى المعتقل. يا له من نظام يقدّر الكفاءات والعقول الراقية. خرج زميله الذي اعتقلوه معه وأخبر العائلة بمكانه.

فيما كانت العائلة مشغولة بمحاولة إخراجه من المعتقل، عبر التوسط هنا او هناك وحى عبر دفع الرشاوى، جاء خبر اعتقال الإبن الثاني. كان في طريقه إلى جامعته في درعا حين أوقفه أحد الحواجز، وكان أيضا على أبواب التخرج. جنّ جنون العائلة فقدت الأم والأب القدرة على التحمل. الأب في العقد الخمسين أخبرنا والدموع تملأ عينيه، أنه سيبيع كل ما يملك حتى يخرج ولديه ولا يريد شيئا من هذه الحياة سوى أن يجلسهما بجواره، ولن يدعهما يذهبان إلى جامعاتهما بعد الآن.

كان بالكاد يملك قوت يومه، كيف له أن يؤمن مبلغ 100 ألف ليرة سورية وهو المبلغ الذي حددته جهة مجهولة خلال اتصالها به كي تتيح له محادثة ابنه الأكبر. استدان المبلغ وأودعه حيث طلبوا منه، تبين في ما بعد أن هذه خديعة ولعبة، لم يعرف من كان وراءها. ولكنها خديعة تكررت كثيراً مع أشخاص كثر.

حاول الأب أن يعرف مكان أحد ابنيه، حاولنا بدورنا مساعدته. كانت العائلة تسمع كل يوم عن تصفيات جديدة يقوم بها النظام بحق المعتقلين، وكان قلب الأم كما قلب الأب ينفطر من الحزن والأسى والألم. ولكننا لم نخرج بأي نتيجة ولم نعلم أين مكانهما، وفي أي فرع هما.  المعتقلون كثر والمحسوبيات أكبروالتلاعب بالناس البسطاء وآمالهم سهل بالنسبة لمن يملك زمام الأمور.

أذكر حين جاءنا اتصال في يوم من الأيام من والد هذين الشابين ليقول بأن الأمن اتصل به ليخبره أن يحضر ويستلم جثة وأوراق ولده الأكبر، الذي اعتقل من جامعة حلب. كان الأب يبكي وهو يقول أن ابنه الأكبر رحل، علّه يستطيع إنقاذ إبنه الأصغر. نعم لقد كان حزن الأب والأم وألمهما كبيرين لكنهما تذكرا ابنهما الآخر المعتقل والذي يحتاجهما الآن أكثر.

حتى الآن لا تزال تلك العائلة تجهل مصير ابنها الأصغر الذي اعتقلوه وهو في طريقه إلى جامعته في درعا. هل لقي حتفه أم لا يزال قابعا في السجن.

أن تغادر الروح الجسد شيء وأن يموت الإنسان في كل يوم وفي كل لحظة وهو بالمعتقل، ويقاسي ويعاني الأمرّين هو وأهله، تلك مسألة أخرى. علينا ألّا ننساهم سواء بدعائنا الذين هم بحاجته، أو المطالبة بهم وبحقوقهم أمام المنظمات فهذا حقهم علينا. قدّموا الكثير لأجلنا، وضحوا بأنفسهم وبأغلى ما يملكون من أجل أن نعيش بكرامة.

هالة الحمصي (42 عاماً) متزوجة وأم لولدين، كانت تعمل في مجال التعليم خسرت عملها بعد الثورة واضطرت للهجرة منذ ما يقارب العام.