غادرت سوريا بغريزة الأمومة

بعد أن تحررت مدينة داعل من الحواجز المقامة فيها، ظننا أننا سنرتاح، ولكننا كنا على خطأ. بدأت المدينة تتعرض لفنون جديدة من الإجرام عبر قصفها بالطيران وراجمات الصواريخ.

كانت ترعبني تلك أصوات القصف خصوصا عندما كانت تنطلق ليلاً والكهرباء مقطوعة. عشرات الصواريخ تطلقها الراجمات التي لم نكن نعرف موقعها، نسمع الأصوات ولا نملك إلا الدعاء والتضرع لله بأن يسلمنا وأولادنا وأهلنا والناس جميعا . وماهي إلا دقائق حتى تتوقف، لكن صدى صوتها لايزال عالقا بآذاننا ونعلم أننا لا زلنا أحياء. ولكن هذه الدقائق كنا نحسها تمرّ كساعات طويلة. نعم نحن لازلنا أحياء، ولكن هناك أناس غيرنا تحت الأنقاض. ربما فارقوا الحياة ولهم أهل وذوين يفتقدونهم، وربما أناس آخرون قد فقدوا أحد أعضائهم.

ما إن يبزغ فجر جديد، حتى تبدأ بعض الطائرات الحربية بالتحليق في سماء داعل، ولا تفارقها. خصوصاً إذا كانت السماء صافية بلا أمطار أو غيوم. وتبدأ بإلقاء البراميل المتفجرة بكل مكان وبشكل عشوائي وجنوني.

سيدات غاضبات من امتناع أحد مكاتب الإغاثة من تزويدهم بكميات إضافية في أحد أحياء مدينة حلب. تصوير صلاح الأشقر

هذا القصف الممنهج للمدينة، بكافة الوسائل، كانت نتيجته أن يذهب أولادنا إلى المدرسة، فقط من السابعة للتاسعة. بعد أن كانوا يبقون فيها حتى الساعة العاشرة. وذلك خوفا على الطلاب وحرصا على أمنهم وسلامتهم.

أذكر صبيحة أحد الأيام حين ذهب أولادنا إلى المدرسة، وبعد وصولهم بساعة بدأت طائرات بالتحليق. ألقت براميلها المتفجرة، سقط أحدها قريبا من إعدادية وثانوية الطلاب. وما إن رأينا الدخان والغبار يتصاعد قريباً من المدرسة، حتى ظننا بأنها أصابت المدرسة وأنها الهدف المراد من القصف .

خرجت إلى الطريق لأستعلم شيئا. فقد كانت المدرسة قريبة من بيتنا. وكنت أرى الناس يتراكضون بالشارع كالمجانين، والسيارات أيضا مسرعة ليتفقدوا المكان وليسعفوا الجرحى. إنتابني الخوف والهلع وبدأت بالبكاء والدعاء والتضرع إلى الله بأن يسلم أولادي وأولاد الناس كافة. لا ذنب لهؤلاء سوى أنهم طلبوا العلم وخرجوا سعياً له. وكذلك الأمر بالنسبة للمدرّسين الذين خرجوا سعياً خلف رزقهم ولتأدية رسالتهم. وهذا ربما ذنب وجرم برأي النظام. لذلك بادر لقصف مدرستهم. فهؤلاء يشكلون خطراً وتهديداً على النظام.

كنت أرى الطلاب يغادرون المدرسة مسرعين إلى منازلهم. لأن النظام لطالما قصف المكان ذاته مرتين كي يوقع أكبر عدد ممكن من المدنيين عند إسعافهم للمصابين. وبعد قليل رأيت سيارة مكشوفة وفيها شخص مغطى. هلعت أكثر فلم أكن بعد أعلم من قد استشهد أو من قد أصيب ربما يكون ابني أو أحد أقربائي .

في تلك اللحظة بدأ شريط من الذكريات يمرّ أمامي، لأحاول أن أستجمع قواي وأفكاري. ليتني لم أرسلهم إلى المدرسة  وليتني ذهبت بهم إلى مكان آمن وليتني…وليتني. .. وبعد قليل علمت بأنه رجل خمسيني قد توفي. كان قد أتى إلى المدرسة ليأخذ حفيدته الوحيدة ويقلّها إلى البيت.  حفيدته أيضا أصيبت إصابة بالغة بقدميها. علمت أنهم حاولوا نقلها إلى الأردن ولكن الأردن رفض دخولها .

مر أولاد أختي من أمام منزلي، فاطمأننت عليهم واطمأننت على ابني من خلالهم. وماهي إلا دقائق حتى ظهر ابني الأصغرالذي يدرس في المدرسة الابتدائية. كان يمشي ببطء، وقد كانت مدرسته بعيدة عن مكان القصف. وبدلاً من أن يسلك الطريق الأقصر للبيت والأبعد عن الحادث فعل العكس، ليرى ماخلفته الطائرة من دمار .

أحسست يومها بأن مشاعره قد تبلدت. لم يعد يشعر بالخوف. بعد أن أصابه نوع من الهلع والهستيريا عقب أول عملية قصف.حينها اضطرنا للنزوح لفترة إلى درعا المدينة. بات يعد الراجمات والقذائف ويجمع مخلفاتها ويخبئها وكأنها بمثابة كنز له. ربما دون أي خوف أوربما كان يخبئ خوفه معها. نعم عاد أولادي يومها بخير، ولكن بعض الناس قد فقدوا شخصا عزيزا عليهم والبعض الآخر يحتاج إلى وقت للعلاج .

مثل تلك الحوادث تتكر باستمرار. ولكن المدارس بعدها أصبحت شبه مغلقة. لم يعد أحد يرسل أولاده للدراسة خوفا عليهم. المدارس أصبحت مستهدفة.  وهكذا عدنا نعد القذائف وغارات الطيران، ونحن في بيتنا، وننتظر مصيرنا المحتوم.

وأخذت قراري حينها بمغادرة البلد كي أنجو بأولادي ومستقبلهم. ربما هي أنانية من جهتي ولكنني تصرفت بغريزة الأمومة.

هالة الحمصي (42 عاماً) متزوجة وأم لولدين، كانت تعمل في مجال التعليم خسرت عملها بعد الثورة واضطرت للهجرة منذ ما يقارب العام.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي