خسرت زوجي ولكنني ربحت إبني وابنتي والثورة
مساء السابع من أيلول/ سبتمبر من العام 2007، رنّ جرس الهاتف في بيتنا.
-“أهلين … تمام كيفكن؟ شو لااا مستحيل! ”
باغتني خبر نقل زوجي وابني إلى مشفى الكندي، إثر تعرضهم لحادث سير في طريق عودتهم من القرية. توجهت بسرعة إلى المشفى، في الطريق كنت أحدث نفسي “إن شاء الله بسيطة أكيد بسيطة ليش لتكون خطيرة مثلا يااا الله. يا رب يا ترى شو اللي صار شو اصاباتهن”. وصلت المشفى لأرى جمعاً غفيراً من الناس، ركضت نحو الإسعاف لأرى ابني البالغ من العمر 8 سنوات ممدد على السرير. وجهه أكبر من الحجم الطبيعي بخمسة أضعاف، يداه مكسورتان، قدمه اليسرى مجروحة جروحا بليغة ترى منها عظمة الساق، والقدم الثانية مكسورة من الفخذ.
– “أين زوجي؟”
أجابوني أنه في غرفة العمليات . ساعة اثنتان ثلاث ساعات، لم يخرج. سمعت أحدهم يقول لأحد أقارب زوجي ممن حضر إلى المشفى “البقية بحياتك”. أوهمت نفسي بعدم السماع. ثم قلت سمعت أن احداً ما توفي لكن ليس زوجي، ولما يكون هو من بين الكثيرين، ذلك التفكير بأنانية الشخص الطبيعية. طلبت الذهاب الى غرفة العمليات، ولكن لم يسمح الأهل لي. أقنعوني بأن أرافق ابني الى مشفى آخر حيث العناية الأفضل.
ذهبت مع ابني وأمي وأبي وبعض الأقارب. هناك أعطوا ابني الدواء والمسكن واستطاع النوم. دخل علينا أحد الأقارب، وقال لي: “البقية بحياتك، ان لله وان اليه راجعون”. هنا أيقنت تماماً أن الخبر صحيح وأن المتوفي زوجي. ايقنت بان زوجي قد توفي تاركا لي ابناً مصاباً وفتاه لم تدخل المدرسة بعد.
عشرة أيام وانا بحالة من الهستيريا وعدم الادراك، لم أستطع فهم الموت أبدا، لماذا يموت الناس، هل من العدل أن يموت الناس؟ حتى وإن كانوا جيدين؟ انه قضاء الله وقدره.
بعد موت زوجي بدأت المعاناة. بدأت أشعر بأن أهلي وأهل زوجي يفرضون علي أموراً، لم أكن اقتنع بها أبداً.
“يا بنتي لازم تقعدي بالعدة. لازم تتحجبي حرام لأجل جوزك. لازم ما تضحكي”.
نحو شهر وأنا محاصرة بمجموعة “لوازم” يجب ألّا أخلّ بها. الأهل مقيدون بالعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية أكثر منهم بالأحكام الدينية. في أحد الأيام، كنت مع النساء اللواتي يخففن عني في غرفتي، الطبيب والممرض في الغرفة الثانية يغيرون ضمادات ابني، فإذا به يصرخ من شدّة الألم: “ماما لا أستطيع التحمّل”. عندها فقدت عقلي تماماً، خرجت من غرفتي إلى غرفته بسرعة وحضنته بقوة. كانت هذه أول ردة فعل متمردة قمت بها بعد وفاة زوجي. شكل الأمر لهم صدمة قوية، كان يجب أن يعتادوا على ما أريده انا، وما أرى فيه مصلحة أولادي. هي كما أعتقد حياتي، وأنا من يملك الحق بتحديد مسارها. منذ تلك اللحظة أدركت أني سأكون لوحدي بوجه مصاعب الحياة وهمومها. استطعت بعد شهر أن أعمل، هي وظيفة بعقد مؤقت لمدة سنة، في شركة في منطقة سليمان حلبي. استطعت الحصول على المال لأربي أطفالي دون سؤال أحد. لأنني ادركت مسبقا أنني إن طلبت لن يكون هناك من يلبّي طلبي ويمدّ لي يد المساعدة. تعبت كثيراً عانيت كثيراً، عشت أياماً ليس لدينا في الثلاجة ما يمكن أكله، لا خضار، لا لحوم، لا فاكهة، لا شيء. علّمت ولديّ، الصبر والتحمل، وإن ما بعد الضيق إلّا الفرج. لم يزرني أحد، إلّا في الأعياد التي كان ولدي ينتظران خلالها العيدية (هدية عبارة عن مبلغ من المال يعطيه الكبار للأطفال. (عشت كل أيامي بهذه الطريقة، إلى أن بدأت الثورة. ومع الثورة ازدادت معاناتي أكثر فأكثر. أهل زوجي موالون للنظام وبقوة، وأنا من المعادين له. كان ابني قد كبر نوعا ما واصبح في العاشرة من عمره فبدأوا يتقربون منه، كونه الأكبر والوحيد والصبي، هذا المفهوم التقليدي بمجتمعاتنا الشرقية التي تميز الصبي عن الفتاة بكل شيء، هذا المفهوم بأن يكسبوا الصبي لصالحهم حتى وان كان ضد امه ، والفتاه بالنهاية ستتزوج وتصبح ملكا لزوجها. أصبحوا يزرعون أشياء خاطئة عني بعقله. قالوا له أنني امرأة غير محترمة، لا أحد يستطيع أن يعرف أين أذهب وكيف أتجول ولماذا؟ شككوه بسلوكي كثيراً، خاصة في فترة تحركاتي اجتماعاتي والمظاهرات. كلها أشياء غير أخلاقية أقوم بها بنظرهم، وهذا ما حاولوا زرعه في عقل ابني. وبدأت المشاكل بيني وبينه، إلّا أنني استوعبت عمره، أهداف أهل زوجي تجاهنا جعلتني أفكر وأتصرف بهدوء وذكاء، ووعي للغايات التي يحاولون بلوغها. إلّا أنني تمكّنت من تخطّي كل المصاعب، وكنت أفشل مخططاتهم مرة بعد مرة. اعتمدت الحوار والثقة والصدق مع ابني. شرحت له موقفي السياسي، ولماذا أكره النظام البعثي (نسبة لحزب البعث الحاكم).عرّفته على أصدقائي، وعلى أولادهم من هم في عمره. اقتنع تماما بموقفي وأصبح هو الشخص الحامي والساند لي في هذه الحياة الصعبة. ليس الأمر بهذه السهولة، لكنه تطلب مني التعب والجهد والوقت الكثير.
اليوم 4 أيار/مايو 2015 ابني في السابعة عشر من عمره تقريباً، شاب جميل جداً ومحترم، شخصيته قوية، هو أقرب إلى صديق لي من كونه ابني، و ابنتي في الرابعة عشر فتاة رقيقة حساسة وحنونة، متفوقة بدراستها هذا ما استطعت أن أتحدى به المجتمع والناس وصعوبات الحياة.