“حمّام السوق” طقس حلبي قديم يعود إلى الحياة وسط الحرب
لطالما اشتهرت مدينة حلب بأسواقها وحماماتها التراثية القديمة. ومن الطقوس الحلبية التي اعتادها الحلبيون في نهاية الأسبوع، ارتياد حمام السوق، والتمتع بالمياه الساخنة والجلسات المميزة. لكن الحرب دفعت الكثير من أصحاب تلك الحمامات إلى إقفالها والبحث عن مصادر رزق ثانية.
تميزت حمامات حلب القديمة بالطراز المعماري الفريد، وجمال المنظر والتخطيط الهندسي، فضلا عما كانت تؤديه من وظائف اجتماعية هامة لروادها، وكأنها نواد رياضية وترفيهية وتجمعات لتبادل مختلف الأحاديث، إضافة لوظيفتها الأساسية في النظافة، لذلك كانت صلة وصل بين أفراد المجتمع .
ويمثل الحمام في المعتقدات الشعبية مظهرا من مظاهر الطهارة والنظافة، وهو من معالم النعيم والجنة لذلك يقال لمن استحم كلمة “نعيمــاً”، وكان بعض العامة يعتقدون أن الحمام مسكون بالحوريات والجان والعفاريت والأشباح، لذلك كان بعض المستحمين الجاهلين يستأذنون قائلين “دستور من خواطركم يا أسياد” وكان لا يتجرأ أحد على النوم في داخل الحمام ولو ملّكوه الدنيا .وللتأكيد على حضور الحمام في التراث الشعبي السوري، كان مادة لمسلسل تلفزيوني سوري شهير بطولة نهاد قلعي ودريد لحام حمل إسم “حمّام الهنا” وتناول القصص الشعبية السورية، وحقق شهرة عربية.
وتشير المصادر التاريخية إلى تعداد الحمامات في حلب بلغ في أوج ازدهارها 177 حماما في القرن التاسع عشر، ثم تدنى في عام 1970م إلى 40 حماما، ولم يبق منها الآن سوى 18 حماما فقط.
ورغم الحرب الطاحنة التي تعصف بمدينة حلب، فقد عاد أحد تلك الحمامات للعمل. أراد المشرف على حمام “الصالحية” أبو محمد (48 عاماً) أن يعيد الألق إلى هذه المهنة المميزة، والعمل على جذب الأهالي في ظروف استثنائية، تفرضها ظروف الحرب، فغلاء مادة الوقود يحتم عليه رفع الأسعار بعض الشيء تجنّباً للخسارة.
يقول أبو محمد: “يقع حمام الصالحية في حلب القديمة بحي المعادي، ويعود تاريخ تأسيسه إلى العهد العثماني في سوريا، وقد قررنا إعادة فتحه نظرا لنقص المياه الكبير لدى المدنيين، وغلاء أسعار المحروقات في الأسواق، إضافة إلى رغبتي بإعادة أجواء الألفة والود التي ترافق زيارة الشبان للحمام”.
وخلال لقائه مع “دماسكوس بيورو” يضيف أبو محمد: “الإقبال من الزبائن كان جيدا جدا في فصل الشتاء، أما مع بدء فصل الصيف تراجع عدد الزوار، بسبب ذهاب معظمهم إلى المسابح، وأصبحت حركة العمل ضعيفة بشكل كبير”.
ويرى أبو محمد أن تسعيرة الدخول إلى الحمام التي حدّدها هي “مناسبة جدا، قياساً بارتفاع أسعار المحروقات والعجز في تأمين مياه الغسيل والاستحمام”، مشيراً إلى الصعوبات التي تواجهه في الحصول على مادة الوقود لأجل الحصول على الماء الساخن في معظم الأوقات.
وعن أقسام الحمام الرئيسية، تحدث قائلا “يقسم الحمام إلى أربعة أقسام، الأول هو البراني المؤلف من عدة “مصاطب” للاستراحة وخلع الملابس من أجل الدخول إلى الحمام، ثم يأتي قسم الوسطاني الذي يحتوي على جرن الاستحمام، وتكون حرارة هذا القسم متوسطة، أم القسم الثالث فهو الجواني حيث يوجد فيه قسم البخار، ويتميز بحرارة عالية، وقد أضفنا مسبح الماء الساخن وغرفة البخار مؤخراً كنوع من التجديد”.
في الحمام قسم خاص بما يعرف شعبيا بـ “قميم الحمام” وهو الجهاز الأهم الذي يخدم الحمام بالماء الساخن والبخار على مدار الساعة.
أبو حسين (51 عاماً) الموظف المسؤول على متابعة عمل “قميم الحمام” والإشراف عليه بحيث يستمر في ضخ المياه بدرجة حرارة ثابتة، بالإضافة لتأمين البخار للزبائن، يقول أبو حسين “هذه الغرفة توصف برأس الحمام، فإن كانت تعمل جيدا وعلى مايرام، فالحمام كله بخير”.
في أيام الخميس يشهد الحمام إقبالاً ملحوظاً نظراً لكونه نهاية الأسبوع، وسابقاً للعطلة الأسبوعية، حيث يتواعد شبان الحي لقضاء سهرة ممزوجة بالمرح وشرب الشاي والنرجيلة في القسم البراني، في حين اعتاد الحلبيون على وداع صديقهم العازب بحمام ساخن قبل حفل زواجه كظاهرة كانت تتميز بها بلاد الشام.
مصطفى (36 عاماً) وهو أحد زوار الحمام للمرة الأولى، قال إنه شعر بالسعادة لعودة فتح حمام سوق في حلب، فهو كان يواظب قبل سنوات أسبوعيا على ارتياد الحمام، لكن الحرب منعته من ذلك، وهو يرى أن الزيارة الأسبوعية للحمام مكلفة اليوم، بسبب غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار.
في نظرة سريعة على المكان، وسط بخار الماء الساخن وجلسات الزوار يخيل لك أن المدينة لا تمر بحرب طاحنة منذ خمسة أعوام.
أبو محمد صاحب الحمام الملتصق بشدة بمهنته التي أحبها، لا يرى بديلاً عنها، إن كان في الوقت الحاضر، أو مستقبلاً، فهو مصر على الاستمرار فيها، فهي مهنته منذ الصغر، في مدينة حلب التي تعتبر أقدم مدينة مأهولة في العالم، وأخطر مدينة في العالم اليوم، ضمن إحدى المفارقات.