“النسوان لأيش طلعتهن بالمظاهرة!”
التاسعة مساءً، هو وقت متأخر على بقاء المرأة خارج بيتها، في عرف مجتمعنا الداراني. ليل 20 أبريل/نيسان 2011، كنت أحثّ الخطى لألتحق بمظاهرة الشموع المسائية، التي ترددت كثيرا قبل أن أخرج فيها من دون علم زوجي. حينها صادفت ذلك الرجل الثلاثيني، بوجهه الممتلئ وهو يرتدي معطفا نموذجيا كأفكاره. يحاوره عدد من الشباب حوله بصوت لم أسمعه. بدا عليهم أنهم يعملون على تهدئة غضبه، كان يكرر جملته بغضب شديد وبصوت عالي يسمع كل من في الشارع: “النسوان لأيش طلعتهن بالمظاهرة؟!!”
حاولت التدقيق في ملامحه، هل أعرفه؟ هل لديه زوجة وبنات؟ كيف يعاملهن؟ هل يحبهن؟ هل يؤمن بأن لهن الحق في مشاركته الآراء؟
بقيت جملة ذلك الرجل ترنّ في رأسي طوال المظاهرة. تنتقل بي الصور الذهنية بين نماذج جميع الرجال الذين أعرفهم، أبي وإخوتي، زوجي وإخوته، جيراننا وزوج أم عزات وأبو سليم والسمان في حارتنا، حتى أساتذتي في المدرسة وفي الجامعة، هل يغضبون كغضب هذا الشاب على خروجي في مظاهرة؟!
لم يكن زوجي متعصباً متطرفاً في علاقته مع المرأة، ولكنه كان رجلا يحمل في منظومته جميع الصور الوحشية التي خلّفها النظام في المجتمع السوري حول ماحدث في الثمانينات وماحدث بعدها وما يحدث الآن.
عرفت أن في ثورتنا ثورات…ثورتي على نفسي ومخاوفها، تثقلها أعباء ثورتي على منظومات مجتمعي، ومخاوف زوجي وأهلي من اعتقال المرأة، وما قد يستجره ذلك من العار على جميع الرجال في عائلتها!
ماكان يسألني أبي عن نشاطي، ولكني كنت أرى في عينيه الخوف عليّ. هو يتوقع أن وراء نقاشاتنا هذه تحركات ما. كانت أمي تعارض كل ما أفعل وتكرر أمامي “هذا النظام مجرم”. وهذا ما كان يزيدني إصراراً على الاستمرار في المظاهرات والمشاركة في النشاط الثوري.
كانت النسوة كالرجال تماما تعارض مشاركة بناتها، فإن كانت منهن من تعارض مشاركة ابنها خوفا عليه من القتل والاعتقال، فمعارضتها لأي تحركات لابنتها معارضة مضاعفة.
ففي عرف مجتمعي هناك تعارض بين مهنتي انجاب وتربية الأطفال وبين المشاركة السياسية! وقد تسببت مشاركة النساء بصدمة للمجتمع التقليدي، وقد تكون صفعة لبعض من يخاف منهم الخروج على الظالم، فكيف لهذه الأنثى أن تكون أجرأ وأقوى منه؟ فمن شاركت منا في المظاهرات فكأنها اخترقت جدرانا متتالية من أسوار الأسر حتى وصلت إلى مشاركة الرجل في تغيير النظام السياسي! كيف تجرؤ على ذلك؟ وهذا حال ذلك الرجل الذي مازال يصرخ!
وصلت إلى المظاهرة قبل نهايتها بدقائق، أعطوني شمعة وعلماً صغيراً، أمسكت بهما بحرص شديد كأنهما كنز ما حصلت على مثيل له سابقاً…عدد البنات المشاركات لا يتجاوز العشرين، بينما كان الشباب في حدود المئة تقريباً.
أنهكتني أفكاري التي استهلكت طاقتي، أنهكني التفكير في عمق المشكلات في مجتمعي، فالأمر الجلي الواضح للعيان هو ثورة على عصابة تحتل مقدرات دولة، على نظام حكم فاسد ظالم، ولكنها في حقيقتها ثورات على نظام اجتماعي يقمع الأصوات المخالفة لمن احتكر القوة!
أنهكتني صور الموت والاغتصاب التي قرأتها في “القوقعة” و”نيغاتيف” وقصص أخرى من مذكرات المعتقلين الذين نجو من براثن المجرمين.
وما كانت ترعبني فكرة الموت إلا بما يتعلق بفقدان أطفالي. من سيضمهم حين يبكون؟ من سيهتم بنظافتهم؟من سيراقب نمو بناتي ويخبرهن بتطورات الأنثى حتى تكتمل كإمرأة؟ من ومن ومن؟
مع كل هذا التزاحم في الصور والأفكار، نسيت أني مازلت في المظاهرة! ومع كل هذه الصراعات في رأسي، كان الأمل يشتعل في قلبي، والشعور بالانتعاش يفرز كل ما لدى المشابك العصبية من هرمونات للسعادة.
فقد آن أوان الحرية.