القطاع الزراعي في ريف إدلب يواصل انهياره
يتأمل أبو عامر (42 عاماً) أرضه متحسرا على ما آلت إليه أوضاعها. هذه الأرض التي كانت استثمارها كل عام بمواسم شتوية وصيفية يدرّ عليه الكثير من الأرباح والأرزاق. أما اليوم فلم يعد يستثمرها إلا بالزراعة البعلية الشتوية ذات المردود البسيط والغير مضمون.
أبو عامر واحد من مئات المزارعين في ريف إدلب، يعانون جملة معوقات أبرزها ارتفاع سعر المازوت والمحروقات في الآونة الأخيرة، ما أدى إلى انخفاض مردود المحاصيل الزراعية. في وقت يعيش فيه الفلاحون فترة ريّ وحصاد أراضيهم وسط مخاوف من خسائر متوقعة في أي وقت، بسبب ما تشهده البلاد من حرب ودمار.
أبو عامر ابن كفرنبل يعتقد “أن الزراعة أضحت من أصعب المهن وأكثرها مشقة وعناء، وذلك لصعوبة الحصول على مقوماتها الأساسية وأهمها المياه”. ويقول “لدي بئر ارتوازي في أرضي ومضخة مياه ولكنها تستهلك الكثير من المازوت المرتفع السعر، حيث وصل سعر الليتر الواحد من المازوت إلى 450 ليرة سورية، بينما وصل سعر ليتر البنزين إلى 500 ليرة سورية. هذا عدا عن تكاليف إصلاح الأعطال والصيانة الدورية”. وإذا ما حسب أبو عامر هذه النفقات مقارنة مع سعر المحصول فهو سيجد نفسه خاسراً في النهاية على حد تعبيره. وهذا ما دفعه لإيقاف زراعة أرضه عن طريق ريّ المحاصيل، وإنما اعتمد فقط على الزراعة البعلية، باعتبار أنها لاتحتاج إلى الري أو نفقات محروقات ولكنها بالمقابل عرضة للهلاك بغياب الأمطار الموسمية الجيدة.
القمح من أكثر المحاصيل التي تعاني المناطق المحررة من انخفاض إنتاجها. انتاج القمح لم يعد يكفي لتغطية الاحتياجات المحلية مما يهدد بخطر كبير لكونه مصدر مادة الخبز التي تعتبر الغذاء الرئيسي للسوريين، ما أدى إلى ارتفاع أسعار كيس الخبز في الشمال السوري.
أحمد العمر (38 عاماً) وهو أحد المزارعين يرد أسباب تراجع زراعة القمح إلى إرتفاع سعر المازوت، وبالتالي ارتفاع أجرة الآليات الزراعية وارتفاع أسعار مياه الري. إضافة لأسباب أخرى تتعلق بصعوبة الحصول على السماد بعد توقف معامل الأعلاف والأسمدة نتيجة استهدافها بالقصف. ويقتصر وجود الأسمدة على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام الذي يعمل على منع وصول هذه المواد إلى المناطق المحررة. ويشير أحمد العمر أيضا إلى عوائق تسويق المحصول، الذي يعتبر أهم مخاوف المزارعين. حيث يقول “إن نحن نقلنا المحصول لمناطق النظام فسيتحكم بالسعر ويشتريه بأبخس الأثمان، بما أنه يأتي من المناطق المحررة، هذا إن لم تتم مصادرته على الحواجز كما جرى مع الكثيرين”. ويلفت إلى أن معظم الفلاحين يضطرون لبيع محاصيلهم في السوق السوداء للتجار وأصحاب المطاحن وبأسعار لاتتناسب مع تكاليف الزراعة.
يلجأ أحيانا بعض المزارعين إلى تضمين أراضيهم بعد أن ينفذ رأسمالهم مايحول دون إكمالهم الموسم، فيعرضون الأرض للضمان لمستثمر يدفع مبلغاً من المال لصاحب الأرض، مقابل متابعة ريّها ثم حصادها وجني أرباح المحصول دون تدخل صاحب الأرض. وحول هذا الموضوع يقول أحد المستثمرين ويدعى سالم (34 عاماً) “نحن أيضا نكون عرضة للخسارة في بعض الأحيان، وذلك كنتيجة حتمية لارتفاع أسعار مادة المازوت أضعافاً مضاعفة عما كانت عليه حين ضمان الأرض”.
ويبقى السؤال ماهو السبب وراء انقطاع مادة المازوت بشكل متكرر بما يؤدي لارتفاع أسعارها؟ يجيب عن هذا السؤال أبو محمد (41 عاماً) أحد تجار المحروقات فيقول “أحياناً يقطع تنظيم الدولة (الإسلامية) الطريق أمام الشاحنات المتجهة لمناطق سيطرة المعارضة، وأحيانا يكون السبب حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي ) وقد يكون السبب أحيانا أخرى مزاجية بعض الفصائل المقاتلة، وتبقى حالة الحرب التي نعيشها هي السبب فنحن لا نعيش حالة طبيعية “.
لم تكن زراعة القمح وحدها الزراعة التي تضررت في الشمال السوري، وإنما زراعة الخضروات أيضا، حيث عزف عن زراعتها الكثيرون بسبب إرتفاع تكاليفها وكثرة متاعبها وشح المياه، ما انعكس سلباً على أسعارها التي باتت خيالية. هذه الزراعات التي كانت طعاماً للفقراء في السابق. هذا الرأي لبعض المزارعين يعارضه رأي آخرين يعتقدون أن الخضراوات تبقى خسارتها أقل من غيرها، لأن المزارع يبيع المنتج بحسب التكلفة، وسعر السوق الذي يرتفع مع إرتفاع المازوت، ولكن المتضرر هنا هو المستهلك الذي يضطر للشراء بأسعار مرتفعة، وكذلك يتضرر البائع الذي تقلّ مبيعاته إذا ما ارتفعت الأسعار فيجبر على البيع بخسارة خوفاً من تلف الخضراوات.
من جهتها أم علاء (45 عاماً) من أهالي مدينة كفرنبل تنتقد طمع المزارعين والبائعين على حد سواء بسبب إرتفاع أسعار المحاصيل والخضراوات. وتقول أم علاء: “أعترف بأنهم على حق في تذبذب أسعار المازوت وعدم ثباتها، وأن التكاليف باتت كبيرة إلا أنهم يربحون أكثر بكثير من ذي قبل”. وتعطي مثالاً على ذلك بأن كلفة كيلو البندورة قد تكون 100 ليرة سورية، فيبيعها المزارع بـ 200 ليرة سورية، ويبيعها التاجر بـ300 ليرة سورية، في حين يستطيع أن يبيعها المزارع بـ 150 فقط، والتاجر بـ 200 ليرة سورية”. كل ما تطلبه أم علاء أن يراعي كلا الطرفين الأوضاع المعيشية السيئة للكثيرين في ظل الأوضاع الراهنة.
وإضافة إلى القمح والخضراوات، لم تسلم مواسم الزيتون في ريف إدلب التي تشتهر بزراعته من تراجع ملحوظ في الإنتاج قدّرته منظمة الأغذية العالمية “الفاو” بـ 40 % ، للأسباب ذاتها وهي نقص الأسمدة والمبيدات الحشرية وغلاء الوقود. ولأسباب إضافية يتحدث عنها عبده حميدي رئيس غرفة الزراعة في محافظة إدلب فيقول “لقد تم تدمير القطاع الزراعي في ريف المحافظة بصورة مريعة”. متهماً النظام السوري بضلوعه بشكل مباشر بالأمر من خلال قيامه سابقا بتجريف مئات الكيلومترات من أشجار الزيتون جنوبي معرة النعمان وعند مدخل مدينة إدلب الجنوبي، ويضيف “كما قام بعض السكان ونتيجة إرتفاع أسعار مواد التدفئة بقطع قسم من أشجار الزيتون والتين والكرز لاستخدامها في تدفئة عوائلهم في الشتاء الأمر الذي بات ينذر بتدمير الغطاء النباتي في المنطقة”.
أمام المخاطر الكبيرة التي تعترض القطاع الزراعي في ريف إدلب، في ظل استمرار الحرب ولتلافي حدوث كارثة إنسانية تهدد السوريين بالجوع الجماعي، نتيجة ما لحق بالأراضي الزراعية ونظم الري من أضرار، قامت بعض المنظمات العاملة في الشمال السوري ببعض المشاريع لدعم هذا القطاع، وكان منها مساعدة المزارعين الفقراء على استثمار أراضيهم من قبل منتدى رجال الأعمال، وكذلك مشروع “قرض حسن”، الذي منحته منظمة بنفسج للنازحين والمتضررين من أجل ضمان أراضي زراعية واستثمارها.
أيضا كان هناك مشروع هيئة شام الإسلامية التي قامت باستئجار نحو خمسمائة دونم لزراعتها بالقمح، وهو ما لاقى تجاوبا من الأهالي، وذلك في سهل الروج وبلدة حاس بريف إدلب. وحول هذا الموضوع يقول محمد زيدان المسؤول عن إدارة هذا المشروع “نحاول من خلال هذه المشاريع معالجة نقص الطحين، وارتفاع أسعار الخبز التي تثقل كاهل الأهالي، وفي الوقت نفسه نعمل على تشغيل الأيادي العاملة، ونطمح بزيادة هذه المشاريع مستقبلا ساعين من وراء ذلك انقاذ القطاع الزراعي من الاستمرار في الانحدار هو الذي كان أهم ما يميز محافظة إدلب وأعطاها لقب الخضراء “.