الإرهاب تهمة كل ثائر

في ثورتنا هذه لم يبق أحد منا لم يفقد شيئاً. بعضنا فقد حياته، آخرون فقدوا أحبّة، غيرهم فقدوا بيوتهم وبعضهم حريتهم. لكل واحد منا مأساة مختلفة، ومن يرى مصائب غيره يمكن أن تهون عليه مصيبته في بعض الأحيان.  وفي النهاية كلها  تبقى تضحيات في سبيل الحصول على حياة كريمة إن لم نعش نحن لذاك اليوم فهي من اجل أبنائنا ومستقبلهم.  

هدى عرفت في حياتها أكثر من مأساة. كان  لديها عملها الخاص، هي مهندسة زراعية، اضطرت لإغلاق صيدليتها الزراعية على أثر وضع جيش النظام حاجزه العسكري بالقرب منها. خافت من ان يتم اسعمال مواد سامة من صيدليتها ضد المتظاهرين.

تقول هدى “كنا ننتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر، لدي أشقاء إعلاميين، اتخذوا من بيتنا مقراً لتنظيم عدد كبير من المظاهرات على مستوى درعا كاملة. كنا نتعاون من أجل التحضير لتظاهرة الجمعة في ساحة الجامع القديم في قريتنا. نكتب اللافتات ونقوم بخياطة أعلام الثورة. ولكن ما لبثت هذه الثورة أن اضطرت لسلوك الطريق الآخر، الذي بفرضه النظام علينا، وإشهاره سلاحه بوجه تظاهراتنا السلمية وصدور شبابنا العارية. أصبح بيتنا مقراً لاجتماع ضباط وقادة في الجيش الحر.

رجل وزوجته في إحدى وسائل النقل المصنعة محلياً متجهين لعملهم في حي السكري في حلب. تصوير صلاح الأشقر

في شتاء عام 2014 اقتحم الجيش الحارة حيث منزل هدى، وهي الحارة المتاخمة لقيادة اللواء 82 في مدينة الشيخ مسكين في ريف درعا الغربي. تروي هدى وقائع “هذا اليوم الأسود”، تقول “سمعت صوت صراخ وإطلاق نار، ظننت أن احداً من جيراني قد أصيب، هممت بالخروج وإذ بجرس هاتفنا يرنّ، أجبت. كانت زوجة أخي تخبرني أن أخي قد أصيب. ركضت إلى الباب أردت مغادرة المنزل إلى منزل أخي لأتفقده، وإذ بضابط عند الباب، أمرني بالتراجع. أخبرته أن أخي مصاب أريد أن أراه”.

رفض الضابط، فألحّت هي عليه قليلاً. أمرها بالتراجع ورفع سلاحه. هدّدها إن لم تتراجع سيكون مصيرها كمصير شقيقها. هي ظنت أنه مصاب ويوجد أمل بإنقاذه وإسعافه، لكنه كان ملقى تحت المطر والبرد الشديد.  

احتجزوا هدى ووالدها السبعيني وزوجة أخيها وابنة أخ صغيرة معهم في إحدى غرف البيت. لم يسمحوا لهم بالتحرك. اندلعت الاشتباكات بين “شبيحة النظام” والجيش الحر طوال الليل. قضى عناصر من الجيش النظامي ليلتهم في منزل هدى، اعتقلوا والدها واعتقلوها بتهمة الإرهاب ولإخلال بأمن الوطن.

تم نقل هدى ووالدها مباشرة إلى أحد الأفرع الأمنية في درعا المدينة. جرى التحقيق معها ومع والدها بالتناوب، وبعد عزلهما عن بعضهما. أنكرت هدى بداية أي علاقة تربطها بالثورة أو حتى تنسيقياتها. بعد مرور عشرة أيام جاء أحد المحققين وأخبرها إن لم تعترف سيبدأ معها بأسلوب آخر ألا وهو التعذيب، وأعطاها مهلة ساعة للتفكير، وفي حال تكلمت سيتم إطلاق سراحها.  

تصف هدى حالتها في تلك اللحظات على الشكل التالي: “عشرات الآلاف من الأفكار والأفكار كانت تدور في رأسي. أيعقل أن أقبل المساومة؟ سأكون قد بعت وطني، ثورتي، مبادئي وأهلي ودماء شهدائنا”.  

انقضت المدة، دخل الضابط وبدأ التحقيق. اعترفت هدى بأشياء في غاية في التفاهة. أخبرتهم أن لها إخوة صحفيين يعملون في قنوات إعلامية متعددة خارج البلاد.  كان هذا الاعتراف كبيراً في تلك الفترة، النظام كان يعتبر أن الإعلام هو السبب بوصولنا لهذه الحالة. كان يمكن له قمع ثورتنا في درعا دون أن يدري أحد كما حصل في حماة. ولكن هدى اعتبرت أن اعترافها بسيط كونه لن يؤذي احداً، فهي اعترفت على أشخاص لا يقيمون في سوريا أصلاً.

بعد أسبوع آخر استدعوا هدى وأعطوها أوراقها الثبوتية ومن بينها دفتر العائلة الذي كان بحوزة والدها ولم يكن معها.  

فوجئت وسألتهم “ألن يطلق سراح والدي أيضاً؟ ضحكوا جميعاً وباستهزاء أخبروها “من قال أنه سيطلق سراحك؟” غضبت في تلك اللحظة وبدأت بشتمهم.  حولوها إلى فرع الجوية مع والدها. والكل يعلم ما معنى أن تذهب إلى فرع الجوية، سمعته تسبق اسمه. حيث التعذيب والإهانة والذل،  كل شيء مباح لا محظور فيه. اعتبرت هدى أنها انتهت،  ولن تحصل على حريتها بعد الآن.  

كانت تحضر في عقلها ما الذي ستخبرهم به في حال تم استجوابها. ولكن ما لم يكن بحسابات هدى الصدمة التي ستتلقاها فور بداية التحقيق. بث الضابط لفيديو يظهر فيه أخاها ملقى على الأرض. وقال لها: مات أخوكِ. صدمت هدى لم تعد تعرف ما تقول، هو يسأل وهي تجيب. وكأنها أصبحت في عالم آخر، حساباتها على الانترنت كلمات المرور كل هذا أصبح بحوزتهم.  انتهى التحقيق مع هدى وحولوها إلى سجن عدرا، بقيت هناك ما يقارب أربعة أشهر. دخلت سجن عدرا لترى سجينات يعانين مثل ما عانت هي وأكثر. لفقت لهم تهمة الإرهاب وجدت ما حصل لها لا يقارن بما حصل مع كثير من  السجينات. اعتبرت أن قمة المأساة أن تضع أحداهن مولودها في المعتقل. طفل ولد في السجن وذنبه الوحيد أن والدته كانت ناشطة في ثورة الحرية والكرامة.

خرجت هدى من السجن بصفقة تبادل أسرى وكانت من بين 50 معتقلة.  تقول هدى “خرجت من السجن ومشيت بشوارع الشام، لمدينة التي درست فيها خمس سنوات، كل شيء قد تغير هي لم تعد شامنا المعهودة. شام العزة والكرامة بل أصبحت شامهم. هم الظالمين الحقودين شامهم بحواجزهم بسياراتهم العسكرية الضخمة؟ أنا لا أريد الشام ولا البقاء هنا”.

عادت هدى إلى درعا إلى أهلها إلى بيتها. الاعتقال لم يحبط من معنوياتها، عادت لتعمل ناشطة إعلامية. وبدأت تعد مشاريع زراعية من اجل إعادة زراعة الأشجار والحفاظ عل ثروتنا النباتية التي لطالما تميزت بها حوران.  

ضحى السامر (٢٤ عاماً) من محافظة درعا، أم لولدين عاصرت الثورة منذ بدايتها تنقلت من مكان الى مكان مع اسرتها بسبب قصف النظام المستمر. بعد استشهاد زوجها تحت القصف انتقلت ضحى لتعيش مع ولديها ووالدها مرة أخرى بحثا عن مكان آمن. تقوم ضحى حاليا بإكمال دراستها وتقوم أيضا بعمل تقارير إنسانية استكمالا لإرث زوجها الصحفي.