اقتحامات بالجملة
نتيجة ثورتنا المباركة بات السوريون يعرفون أسماء كافة المدن السورية. بعض المدن والقرى لم نكن قد سمعنا بها من قبل، مثل باب السباع والخالدية وطفس وداعل والباب والشعار والشيخ مسكين وغيرها من مدن سوريا الحبيبة.
انتفضت أغلب مدن درعا، وكانت داعل من أوائل المدن المنتفضة. كانت تلك المدينة القريبة من درعا المحافظة، محاطة بالمدن من كافة الجهات. لم يكتفِ النظام بوضع الحواجز داخلها وحولها، والتنكيل بأهلها واعتقال شبابها، لا لسبب إلّا لأنهم ينتمون إلى داعل. لجأ النظام إلى أسلوب الإقتحام للمدينة ومداهمة المنازل وحرقها، أو تجميع أثاث المنازل خارجها، وحرقه أمام أعين ساكنيه. ناهيك عن السرقة والسلب واقتياد بعض الشبان إلى جهة مجهولة.
هذا رجل كبير بالسن يقيم على مقربة منّا، خلال أحد الاقتحامات أخبرهم أن يتريثوا قليلا عند الباب، حتى ترتدي بناته الحجاب على رؤوسهن. انهالوا عليه بالضرب أمام عائلته. حاول أحد أبنائه الدفاع عنه فما كان من تلك العناصر إلّا أن كبّلوا هذا الشاب، ووضعوه في إحدى سياراتهم.
جارنا كان قد ترك منزله هو وعائلته خوفاً من الاعتقال، عند دخولهم إلى بيته ولم يجدوه أرادوا سرقة البيت لكنهم لم يجدوا مايسرقوه أيضاً. قتلوا جارنا في ما بعد هو وابنه وابن أخيه.
هذا منزل صاحبه ينتمي إلى الجيش الحر، أخرجوا كافة أثاثه رموه خارجاً وأحرقوه أمام أعين العائلة. لم يسلم منزل أهل هذا الجندي في الجيش الحر أيضاً، لم يسمحوا لهم بأخذ أي شيء من المنزل، لا أوراق ولا مستندات ولا حتى صورة.
كنا نرى ألسنة النيران تتصاعد في سماء البلد، دون أن نستطيع فعل شيء سوى الدعاء والابتهال: “يا رب سلم ويا رب تنتقم منهم”.
في إحدى الليالي سمعنا هدير الدبابات. استمر الصوت عالياً ومطوّلاً، علمنا أن هناك ما يحضره النظام لنا. وما لبث أن تأكد الخبر، أعلن الناشطون المسؤولون عن حراسة المدينة ليلاً، أن داعل محاصرة من كافة الجهات، وأن النظام قد حشد تعزيزات قوية لإقتحامها عند الفجر الباكر.
ومع الفجر الباكر بدأنا نسمع صوت إطلاق النار من أسلحة رشاشة ثقيلة. صوت الرصاص يصحبه صوت جنازير الدبابات. أعلنوا حالة منع التجول، ليمنعوا أحداً من الهروب. كان الناشطون خلال الليل قد غادروا المدينة، إلى مدن أخرى أكثر أمانا، سالكين الطرق الترابية.
بدأت الدبابات تقترب رويداً رويداً، تتبعها السيارات المدنية. كنا نراها من النوافذ تصطف أمام كل بيت، وتعيث فساداً. حين جاء دورنا اصطفت السيارات العسكرية أمام منزلنا، كثير من العناصر مدججين بالسلاح، راحوا يطرقون الأبواب بعنف، بأقدامهم حيناً وبأعقاب بنادقهم أحياناً. كانوا يشهرون السلاح نحو الباب قبل أن يفتح كي لا يباغتهم أحد.
وكان زوجي يومها مسافراً، كنت أنا والأولاد وحدنا. قرعوا الباب بأقدامهم، وصوبوا أسلحتهم نحو ابني الذي فتح لهم الباب. دخلوا المنزل بأحذيتهم العسكرية، سألونا عن الأبواب الموصدة، فتحناها لهم، سألونا لماذا نتحلّق في صالة المنزل، أخبرتهم أنه عند كل اقتحام تبدأ الأعيرة النارية بدخول غرفتي، فلا نستطيع المكوث فيها. كلامي أغضب أحدهم، وقال: “ماذا تقصدين؟ هل تعنين أننا نحن من نطلق النار وليس هؤلاء الإرهابيين؟” أجبته أن الحاجز هو من يطلق النار. فامتعض أكثر وبدا بتفتيش البيت والخزائن وحتى الحمام، وكل شيء.
لم يجد شيئا، ولكنه قبل أن يغادر طلب من ابني الذي كان في الصف السابع أن يحضر له كتاب القومية. وما أدراك ما كتاب القومية. كان ابني حينها قد كتب عند صورة بشار عبارات معارضة ورسم رسوماً كما يفعل كل الطلاب. صحيح أننا كنا قد محيناها قبل الاقتحام، وخبأنا الكتاب. ولكن إن فتش جيدا ووجد الكتاب، وأمعن النظر سيكتشف مافعله ابني. وقفت لوهلة لا أدري بما أجيبه، إلى أن نادى عليه قائده لينزل فقد تأخروا.
ذهبوا وأنا لا أصدق أن هذا اليوم قد مرّ بسلام. وأن ابني الذي بالصّف الأوّل لم ينبس ببنت شفة. فلطالما تغنى بشعارات الثورة وأغانيها. فرحت أنهم لم يجدوا أسلحتنا الفتاكة التي خبأناها مع القمامة، تلك المتمثلة بربطة رأس ولحشة من الصوف نسجتها لابني الصغير وعليها علم الثورة، وبعض الرصاصات الفارغة، التي كان يجدها في الشارع ويخبّئها للذكرى.
خرجوا وأنا أحمد الله أن سلّمنا جميعاً منهم، لأن بالفعل من سمع ليس كمن رأى. هذه إحدى صور الاقتحامات العديدة والمتكررة، وبعد كل اقتحام أزداد يقيناً أننا بعنا جولاننا الحبيب، وبأننا كنا قادرين على تحريره، لو لم نبعه.
بقيت عند ابني هواية جمع الرصاصات الفارغة، وزاد عليها الشظايا وبقايا صواريخ الراجمات. كان يعبّئها بأكياس، ويدفنها بالتراب ويضع علامة عندها. وقبل خروجه من البلد تركها أمانة تحت إحدى الشجيرات.
هالة الحمصي (42 عاماً) متزوجة وأم لولدين، كانت تعمل في مجال التعليم خسرت عملها بعد الثورة واضطرت للهجرة منذ ما يقارب العام.