أول دبابة في شوارع مدينتي

اعتقدنا أن الجو قد أصبح آمناً، خصوصاً بعد انقطاع الكهرباء لأيام في مدينتي داعل (إحدى مدن حوران الكبيرة التي خرجت فيها أولى المظاهرات)، ظننا أن وحدات الأمن لن تقتحمنا كما فعلت مع بعض القرى. ولكن اعتقادي كان خاطئاً.

استيقظت باكراً يوم الاحد 8 ايار/مايو 2011، وجهزت نفسي لأذهب وأخي إلى جامعتنا في دمشق. بدأت أسمع أصوات طلقات رصاص متفرقة، أخذت تزداد شيئاً فشيئاً، وبقوة وكنا نسمعها من جميع الاتجاهات، مما أيقظ الناس وأقلقهم، راحوا يبحثون بعيونهم من نوافذ منازلهم عن مصدر هذه الطلقات. وماهي إلا دقائق حتى سمعنا مؤذن الجامع ينادي على أهالي داعل، ويخبرهم أن قوات الأمن والجيش ـصبحت في المدينة. ازداد الخوف والقلق وازداد الفضول. خرج بعض الأهالي ليعاينوا بأنفسهم ما الذي يحدث. لقد كنت أعيش لحظات من أصعب اللحظات في عمري وأكثرها قلقاً، فقد سمعنا عن التخريب والنهب والاعتقالات التي كانت تحدث مع كل اقتحام. كل شيء كان يخطر ببالي. كنت أتوقع أي شيء. أكثر فكرة كانت تخيفني أن يعتقلوا أبي أو أحد إخوتي. لم يكن باستطاعتي إلّا الدعاء ثم الدعاء، وأنا أنتظر ماذا سيحدث. كنا نسمع بعض الأصوات الغريبة، اصوات لم نعهدها من قبل. أصوات محركات غير محركات السيارات والشاحنات، كانت الأصوات تقترب أكتر فأكثر، إلى أن وصل مصدر هذه الأصوات، ولأول مرة في حياتي، رأيت الدبابات. نعم الدبابات تمشي في شوارع داعل وتدمّر أرصفتها، آثار جنازيرها حفرت على شوارعها. ولم يبق في الطريق أحد. اختبأ الجميع في منازلهم. كنت أراقب من نافذة غرفتي كل ما يجري في الخارج. هل هي الحرب ستبدأ أم ماذا؟! أم أن كل هذه الدبابات والباصات والعربات المسلحة والجنود المستنفرين، كلهم لأجل كلمة قلناها، الحرية. كان هذا المنظر وهذه الاجراءات الأمنية كافية لنعرف أن النظام قد جنّ جنونه، وأن ما نواجهه ليس بالأمر السهل. وأن ثورتنا لن تكون ثورة كأي ثورة، ولكنها ستصبح حرب حياة أو موت. لم ندرِ، لماذا سنحارب، نحن لم نختر الحرب، ولم نختر العنف. لقد خرجنا وكل ما كنا نملك هو صوتنا، وأمسكنا بأيدينا أغصان الزيتون، لنوضح رسالتنا السلمية، وقلناها سلمية سلمية، وهو أرادها إجرامية.

حلب : بستان القصر سيدة تصطحب أطفالها تسوق بعض الحاجيات. تصوير صلاح الأشقر

دخلت الدبابات وبدأت تفتح أبوابها. خرج منها فتية صغار، شعرنا بالحزن عندما رأيناهم، كان الخوف بعيونهم، كما كان بعيوننا. دباباتنا لم تتحرك يوماً من مكانها لتتوجه لعدو، فكيف لهم أن يستوعبوا أنهم  لأول مرة اضطروا أن يقودوا هذه الدبابات كانت لتواجه أبناء وطنهم. كان من المفروض أن يحمونا لا أن يقتلونا. نظام نازي رخيص عميل، استغل نفوس شباب ضعيفة لتحارب وتقتل شعبها.

تمركزت الدبابات عند مداخل داعل، أقيمت الحواجز الأمنية والسواتر على شوارعها وبين الحارات، القناصات على الأبنية العالية ومفارق الطرق. حملات الاقتحام والمداهمات مستمرة لجميع المنازل، كانوا يفتشون المدينة بيتاً بيتاً،  كانوا يقلبون البيوت رأساً على عقب، يسرقون كل ما يجدون من ممتلكات ثمينة، ويعيثون خرابا في البيوت. يحرقون الدراجات النارية، ويذلّون الشباب ويعتقلونهم، ويهددون النساء اللواتي كن يحاولن تخليص الشباب او تخبئتهم من الاعتقال. كنا نعرف أن من يأخذوه لن يرجع إلى أهله الا جثة مشوهة. استمرت حملة الاقتحام طوال النهار حتى مغيب الشمس. حمدت الله كثيراً أنه حمى إخوتي ولم ياخذوهم. كان الشبيحة (تسمية تطلق على المتعاونين مع القوى الأمنية) يتجمعون عند دوار المدينة، وكنت أرى الباصات من نافذتي تمرّ وقد امتلأت بالمعتقلين، من شباب ورجال مدينتنا. كم شعرت بالقهر لرؤيتهم، والعجز لأنه لم يكن باستطاعتي فعل أي شيء لمساعدتهم وتحريرهم. فمجرد التفكير إلى أين ستكون وجهتهم كافية لتشل تفكيري وتصيبني بالجنون، كما هي حال الأمهات اللواتي خرجن يركضن خلف تلك الباصات، وهن يصرخن ويبكين على فلذات أكبادهن، وهن عاجزات حائرات ليس بمقدورهن فعل شيء. خرجت العصابة من المدينة وخلفت وراءها الخراب والبيوت المحروقة والمهدمة، والآهات والدموع والصدور الفارغة قد فارقتها أرواحها مع المعتقلين، وبقيت تلك الآليات المخيفة تغلق مداخل داعل لتحاول تفرقتها عن حضن امها درعا البلد.

 

ديانا الحريري (25 سنة) من محافظة درعا. نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات في مدينتها ثم اضطرها القصف المستمر للجوء إلى الاردن حيث أنجبت طفلتها الوحيدة. تعيش ديانا حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.