أطول عشر دقائق في حياتي
في 28 نيسان/أبريل 2014، أغلق كراج الحجز في حي بستان القصر، وبشكل نهائي أمام المشاة والبضائع من المناطق المحررة إلى مناطق النظام من قبل الكتلة الثورية في حي بستان القصر و الكلاسة في حلب. أطلق الحلبيون على هذا المعبر تسمية “معبر الموت” بسبب العدد الكبير للذين قضوا خلال عبوره. يرصد هذا المعبر عدد من قناصة النظام. هذا المعبر الذي يعد الحد الفاصل بين مناطق سيطرة الثوار والمناطق التي يحتلها النظام. وهو المنفذ الوحيد الذي يعبر منه الناس لقضاء أعمالهم بالرغم من خطورته.
في 28 كانون الثاني/يناير 2014، ذهبت مع عائلتي إلى مناطق النظام بغية زيارة جدتي وأقاربي. كنا سنبقى لثلاثة أيام فقط، لكن الوضع في حينها تدهور في منطقتنا المحررة، فلم نستطع العودة الى المنزل وبقينا أكثر من شهر. لم نستطع تحمّل أكثر من ذلك، بسبب الوضع المتدهور من الناحية الاجتماعية والأخلاقية وحتى الأمنية في مناطق النظام.
في 6 آذار/مارس 2014، كانت رحلتي الأخيرة عبره، رحلة العودة. وصلنا الى حي المشارقة، الذي يقع تحت سيطرة النظام، وهو متاخم لحي الجميلية، الذي يقع في منتصف حلب ويحوي مربعاً أمنياً يضم فرع الحزب (البعث)، القصر البلدي، الشرطة العسكرية وقيادة موقع المنطقة الشمالية. ومن حي المشارقة نذهب إلى المعبر، وهناك يتمركز حاجز للنظام، يحوي العديد من الشباب العسكريين وبعض الفتيات المجندات أيضاً. كانوا يفتشون المارة وخصوصاً الشباب.
رجال الحاجز كانوا يقومون بفصل النساء عن الرجال الذين يريدون العبور إلى الطرف الآخر للمدينة. فإن كانوا عائلة واحدة، ويأخذون هويات الجميع للتحقق منها ومن تبعية أصحابها لأي فصيل “إرهابي” كما يقولون. كانوا يتعاملون بخشونة مع الرجال، يستخدمون الكلام البذيئ والشتائم وأبشع أنواع الذل.
وفيما كنا في الصف المزدحم ننتظر دورنا للعبور، صرخ أحد العسكريين من الحاجز باسمنا وباسم 12 شخصا آخر. بدأ الخوف يسري في أجسادنا، لأننا نعلم أنه ربما لن نخرج منه على قيد الحياة. بدأنا بالاستعداد للعبور، تم تفتيشنا من قبل نساء الحاجز “الشبيحة” للتأكد أننا لا نحمل أي أشياء “إرهابية” على حد تعبيرهم.
وبعد انتهائنا من الاستعداد بدأنا بالمشي نحو شارع المعبر. إنه شارع عريض يبدو كباقي الشوارع العادية. لكنه كان فارغاً ومرعباً بمجرد النظر اليه تدخل الرعشة إلى قلب الناظر. بدأنا بالمشي بسرعة، وشفاهنا لا تهدأ من كثرة الدعاء. أحسست أن حواسي الخمسة تعمل بشكل كبير، وبسرعة كبيرة. كانت أمي توصيني طوال الطريق أنه اذا أصيبت أو حدث لها شيئ أن أتركها وآخذ بيد أختي وأركض، أنا أيضا أوصيتها بالكلام نفسه. وفي منتصف الطريق رأيت بقعة دم كبيرة. عرفت بعد فترة انها لرجل عجوز أصيب أثناء عبوره، هو فقط عجوز لكنه ربما “ارهابي” أيضاً في نظرهم. فزعت كثيرا من هول المنظر، لأنني لم أعتد رؤية دماء أناس عاديين تهدر في الشوارع. وبدأت ضربات قلبي تتسارع أكثر فأكثر. لقد رأيت الخوف على وجوه جميع من حولي، رجالاً ونساءً حتى الأطفال كانوا يبكون طوال الطريق وكأنهم مدركون لما يحدث. وعندما قاربنا على الوصول إلى طرف المناطق المحررة، بدأ قناص قوات النظام برمي الرصاص علينا. بدأنا بالركض الى أن بلغنا برّ الأمان. وعندما رأيت أحد عناصر الجيش الحر يجلس عند طرف الرصيف، أحسست بنوع من الأمان. وادركت اننا بخير وسالمين وعلى قيد الحياة. ورأيت أخي الذي لم أره منذ شهر ينتظر ليستقبلنا. كانت سعادتي لاتوصف. لم أتوقع أنني سأصل حية الى منزلي، كنت متيقنة أنني ربما أموت، فلا أحد يعلم قدره ولا نعلم متى سنموت فالموت لايعرف صغيراً ولا كبيراً. الكثير من العابرين لم تتسنى لهم فرصة البقاء على قيد الحياة بسبب القنص المستمر.
لقد كانت عشر دقائق فقط، عبرت فيها الشارع، لكنها كانت أطول عشر دقائق عشتها بها في حياتي كلها .