أرواحنا براعم ربيعنا
مرّ على جيراننا وكنا نترقبه بلهفة، ننتظره ونسأل أنفسنا: هل من الممكن أن يحين دورنا و يمرّ علينا؟
هل سيأتي لزيارتنا ويطرق بابنا؟ هل سنسمع أصداء الحرية من خلفه تنادينا؟ هل سيتمكن الربيع العربي من الوصول إلينا؟ وهل سنجرؤ على فتح الباب له؟ هل سنرحّب به ونكسر حاجز القمع والخوف ونستقبل الحرية ونحضنها على أرض سوريا؟
كل هذه الأسئلة كانت تجول بأذهاننا، لا نجرؤ على طرحها على أحد سوى أنفسنا. كنا ننتظر أن نحصل على الإجابة، واللهفة في صدورنا تصرخ وتنتظر اللحظة التي سنسمع فيها أول صوت ينادي أول كلمة تطالب بالحرية، لتتبعها بقية الأصوات وتساندها، ونصبح معاً بصوت واحد نقول كلمة واحدة وبروح واحدة ليصل صداها إلى كل العالم. وليعلم هذا العالم أن إرادة الشعب أقوى من كل المخاوف، ويمكنها أن تكسر كل الحواجز، وأن الحرية ثمنها غالي، وأن الروح ترخص فداها، ونحن في سوريا اخترنا طريقنا وانتظرنا طويلاً. صبرنا على الظلم والاستبداد، لكن الصبر نفذ ووصل حده، وحان الوقت الذي يجب فيه أن نقف بوجه الظالم ونقطع انفاسه ونستأصل الظلم من جذوره.
وصل ربيعنا، وأخيراً حان دورنا لنُسمِع صوتنا، ونقول لا للقمع ولا للخوف. كنا في مدينتي داعل التابعة لمحافظة درعا، من أول مدن سوريا التي خرجت تنادي وتطالب بالحرية. كأي شعب مظلوم خرجنا نطالب بأبسط حقوقنا ونسمع العالم صوتنا، ونقول للنظام أننا نحن جيل الحرية، نحن الجيل الذي لا يهاب قول الحق ولانخضع للقمع والاستبداد.
قلنا كلمتنا بصوت نقي مسموع، خال من أي خوف ومليء بالتحدي والإرادة، ولم نكن نملك بحوزتنا إلا كلمتنا، ولكن هذه الكلمة كانت كبيرة جداً بحق النظام، وثقيلة على مسمعه، وهزت أركانه. لم يستطع أن يستوعب كيف و بعد 40 عاماً من القمع، خرج جيل قوي واجه هذا الإستبداد وقال كلمته. الكلمة التي وحدها جعلت النظام يرتعب ويتخبط. حينها خرجت المظاهرات الحاشدة من كل قرى وبلدات حوران وتجمعت في ساحة درعا البلد والجامع العمري بدرعا. بعدها رأينا طائرة أولى وثانية وحتى الطائرة العشرين، واحدة تلو الأخرى متجهة تتجه جميعها إلى درعا. كانت الطائرات محمّلة برجال الأمن الذين قاموا برمي الغازات المسيلة للدموع ليفرقوا المتظاهرين، لكن شبابنا كانت تملؤه القوة والعزيمة وقد اختار طريقاً ولن يتراجع عنه. لم يتمكن الغاز من تفريق الشباب الثائر، الأمر الذي جعل النظام يجنّ. وعندما رأى عدم اكتراث المتظاهرين وشجاعتهم أمام عنفه ظهرت نواياه الوضيعة لوأد الثورة، ولم يقبل إرادة الشعب ومتطلباته في التغيير. وعندما لم تجد عبوات الغاز نفعاً أمام إصرار المتظاهرين بدأ بإطلاق الرصاص الحي على الأبرياء، لقد كان النظام مستعداً لقتل كل متظاهر موجود وبدون أي تردد. كان همه الوحيد أن يدفن هذه الثورة مهما كلف الثمن.
نتيجة لهذه الوحشية سقط الكثير من الضحايا، بينهم أول شهيد في درعا كان من مدينتي داعل. لم يكن أي شهيد، فقد كان أستاذاً في مدرستنا الثانوية في المدينة. الأستاذ ياسر خلف العاسمي كان يدرّس مادة التربية القومية، كنا نكنّ له كل حب واحترام، لطالما كان متفانيا في مهنته وحرص دائما أن يحصل جميع طلابه على العلامة لتامة في مادته، رغم أنها مادة جامدة ومملّة، إلّا أن هذا الأستاذ الرائع كان يقتل هذا الملل باسلوبه الهزلي وروحه الخفيفة، ودائما يتخلّل درسه التعليقات الساخرة عن النظام. كنا نستشعر مدى كرهه له ومدى معرفته بحقيقة خيانة النظام للشعب، وحتى الكتاب المقرّر الذي كان يدرسنا إياه كان يتبع بعض الفقرات التي يشرحها بكلمات تدل على كذب وخداع النظام ومدى نفاقه. لذلك كان الأستاذ ياسر من أول من خرج يطالب بالحرية، وأول من قدم روحه فداءً لها. كان لخبر استشهاده وقع الصدمة والدهشة علينا. حزنت على فقدان أستاذ قدير ومتفانٍ مثله، ودهشت كونه هو بالذات كان أول شهيد، فقد احسست بداخلي أنه وأخيراً حصل على ما يريد ونال المرتبة التي أرادها ويستحقها. لاتزال صورة جثمانه يعبر تحت شرفتي وقد حمله الشباب على أكتافهم والإبتسامة مرسومة على وجهه لا تفارقني أبدا. وتلك الابتسامة ابتسامة النصر التي لطالما ارتسمت على وجهه خلال مسيرته المهنية، التي لم تستطع تهديدات النظام مسحها خلال أداء واجبه، ستبقى راسخة بقلوبنا وعقولنا لنخبر أولادنا عنها. منذ لحظة سقوط أول شهيد أيقنّا انه لن يكون الشهيد الوحيد، وخاصة بعد ما رأيناه من ردة فعل النظام تجاه مظاهراتنا السلمية. ولكن هذه الرصاصات لن تتمكن من إخافتنا فقد واجهناها بصدور العارية، لأن كلمتنا هي كل ما نملك، وهي أقوى من أي سلاح فلا يوجد رصاصة تخترقها ولا سلاح يستطيع أن يبيدها. لقد اخترنا طريقنا وقلنا كلمتنا ولن نتراجع حتى نحقق هدفنا، ومهما طال دربنا ومهما قدمنا من أرواح سنكمل الطريق إلى أن نصل لحريتنا المنشودة.