من تحدِّي التمثال إلى منفى الصقيع…
صحفية تصور مظاهرة في حلب تطالب فصائل الجيش السوري الحر بفك حصار المدينة. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"ليس سهلاً أن تستطيع المشي وأنتَ تحمل بؤسَ الحرب على كتفَيك، صدِّقني!"
نحنُ سبَّاقون إلى الإبتكارات وإن لم تُنسب إلينا!
أقولُ هذا الكلام وأنا أرى العالم اليوم، مشغولاً بتحدِّي Mannequin Challenge أو ما يُسمّى بالعربية بتحدِّي التمثال. وهو القائم على أن يتجمَّد مجموعة من الأفراد في مكانٍ ما، كالتماثيل، ويتم تصوير المشهد بالفيديو.
نعم نحنُ في دولنا سبّاقون إلى هذا التحدي، وحياتنا كمواطنين، أشبه بالتماثيل! فمنذُ أربع سنوات، أنا شخصياً شاركتُ في هذا التحدي في سوريا، قبل أن يتحوَّل بعدَ ذلك إلى موضة وصرعة! وإليكم قصّتي.
كنتُ أمشي أنا وأُختي في حي الجميلية في حلب، تحديداً خلف مشفى الرازي بجانب الفرن الآلي وفي وسط سوق الخضار الذي استحدثته الأزمة.
كانت الحياة قد تحوّلت إلى ركضٍ مستمرٍ بالتصوير البطيء… أطفال، شباب يُصارعون الكهولة، مسنُّون ليس لديهم رفاهية الشيخوخة، نساء جرَّدتهن الحرب من كلِّ شيء إلّا الصبر اللامتناهي لمُفاصَلَة البائعين على الأسعار… وأُختي وأنا، نحاول العبور إلى الطرف الآخر من الشارع عبرَ عنق الزجاجة هذا!
السماء وقد حجبتها الغيوم، والشتاء يكشِّر عن أنيابه ويُشهر مخالبه… دعكَ من التعبيرات الأدبية! في الواقع لا شيء يصفُ شتاءَ الحرب، حيثُ بإمكانكَ أن ترى الكآبة في الوجوه، أن تشعر بطعمها وتلمسُها… أمّا الشم، فيمكنك تخيله فقط في حضرة الخبز، ورائحته التي تفوح من الفرن الآلي سيّدة الموقف!
ونمشي أنا وأُختي… عنصر الأمن يتحكَّم بالناس المصطفة لأخذ الخبز، هل قلت “الناس”؟! لم يكونوا أُناساً، كانوا أرقاماً كتبها العنصر الأمني على أذرعهم لتحديد مكام اصطفافهم، مجموعة من الأجساد…
عليكَ أن تجلس على الرصيف أو أن تقف إلى جانب بائع السحلب -السحلب الساخن- وأن تتفرَّج إلى جانب هذا الجزء من الديكور، إلى المشهد… أن تضحك بكلِّ ما فيكَ من عدمٍ، إلاّ أنّكَ لفرط ما رأيتَ اعتدت!
أيعتاد الإنسانُ الذل؟! إننا لم نعتده، نحنُ حجبنا روحنا فقط، لنقوى على السير، بالتصوير البطيء على الأقل… فـليس سهلاً أن تستطيع المشي وأنتَ تحمل بؤسَ الحرب على كتفَيك، صدِّقني!
أينَ تحدِّي التمثال في الموضوع؟! أنتَ مستعجل وتريد أن تقفز عن الأحداث بسرعة، وهذا جزء من الآلية الدفاعية التي حدَّثتكَ عنها، أنتَ تريد أن تحجب من قصتي هذا البؤس كي تستطيع السير!
أعذرك…
كنا نرتدي جميعاً الجاكيت السميك، ويضع أكثرنا شالات الصوف الخشنة، وأحذيتنا طويلة… ترى أصابعنا حمراءً مُتشقِّقة من أثر الجليد.
نسيرُ كخيارٍ لا بديل عنهُ حينَ بدأَ التحدّي… انطلقت الصافرة، شخصنا جميعاً نحوَ السماء، وتجمّدنا… فقد بدأ تحدّي التمثال!
العسكري الذي كانَ يلوكُ قطعةَ الخبز، تجمَّدَ بفمٍ مفتوح… العم الذي كان يُدخِّن تجمَّدَ وهو ينفخ الدخان إلى الخارج… والخالة التي كانت تنتقي البطاطا تجمَّدتْ، نصف الحبة في الكيس والنصف الآخر شاخصٌ معنا… الطفل الذي كان يبكي سكتَ تماماً وتجمَّدَ شاهقاً.
تجمَّدنا جميعاً كأوركسترا مطيعة لعصا المايسترو، حتى الهواء حبسَ رائحة الخبز وشهقَ.
الخبطة، ثمَّ الإعصار… ينتهي هنا تحدِّي التمثال ويبدأ التحدِّي الأكبر. نعم فحياتنا مجموعة تحديات…
عليكَ أن تركض، وأن نركض جميعاً… هناك دقائق لا أحد يعلم عددها تفصل بيننا وبين التحدِّي التالي. ولكن لا حماسة لأحد لأن يشارك في التحدّي، ولا وقتَ لتسأل عن الأضرار… لا وقت لتنفض عن نفسك الغبار والشظايا، لا وقت لتسعل البارود…
عليكَ فقط أن تركض، لا تعرف إلى أين، ولا تهم وجهتك، إنَّ وجهة الجميع كانت بعكس ما يُفترَض. نسير، نركض، بالتصوير البطيء، دائماً بالتصوير البطيء…
لاحقاً ستُتقن الركضَ عكسَ التيار، وستسعل البارود سريعاً، وستذهب إلى حيث يجب أن تكون، متجاهلاً خوفك وما أورثته لك المحطات السابقة من خسائر. لكن في المرة الأولى لا يمكنك سوى أن تركض، فتركض…
أُحاولُ أن أصفَ المشهدَ، إلاَّ أنني كنتُ مُخدَّرة بالكامل، لا أذكرُ أيَّ تفصيلٍ عن الدقائق الثلاث التي ركضناها… أذكرُ فقط أنني تمسَّكتُ بأُختي كما كنتُ أفعلُ حين كنا صغاراً، وتركتُ سيلَ الراكضين يجرفُني!
لا أذكرُ سوى اللحظة التي تبدَّلت فيها رائحة الخبز بمذاق البارود، وبطابور الخبز وهو ينفرط، والأقدام التي لا تجد لنفسها موطئاً، والعويل البعيد الذي يشبه ألفَ سكِّينٍ تنغرس في حلقك كغصّة تمنعكَ من البكاء.
إنّ البكاء في هذه المواقف ليس مُبرَّراً بالمناسبة!
ستبكي كثيراً نعم، لكن في ما بعد. إمَّا حين يُغلَق عنك باب الميكروباص، وتجدُ نفسكَ غريباً عن الطرقات التي كنتَ تمرُّ بها كلَّ يوم… أو حينَ تفتحُ الصفحات الإخبارية باحثاً عن بقية الكومبارس الذين شاركوكَ التحدي… أو حينَ تحيك سترة اخترقتها شظية… أو أنكَ ستبكي فجأةً دون مبرِّر في محاضرة القانون الدولي بعد أن تضحك كثيراً وتُطرَدُ من القاعة… أو أنكَ لن تبكي.
ومن الممكن ألاّ تبكي وأن تمضي إلى تحدّي التمثال التالي في المنفى، وهو الأصعب بعدما تترك بلدك… هوَ الأصعب، لأنهُ يمتد على مساحاتٍ شاسعة من الزمن البطيء، والصافرة هذه المرة تأتي على هيئة صمت!
ترتدي ملابسك كلَّ يومٍ وتمضي، وتجدُ أنَّ العالم قد تحوَّلَ في عينَيك إلى تحدِّي تمثالٍ لَزج!
كل ما حولك في المنفى، جميل، لكنهُ مَكسو بالصَّقيع… ابتسامَة المُحاسِبة اللطيفة في المتجر، مَكسوّة بالصقيع. تحيةُ جارك الدافئة، مَكسوَّة بالصقيع. السيارات النظيفة الخالية من ثقوب الرصاص، مَكسوّة بالصقيع. باصات النقل الداخلي المحتفظة بزجاجها كلهُ، مَكسوّة بالصقيع…
هل تعرف معنى الصَّقيع؟؟
إنه توقُّفُ الزمن وأنتَ تركضُ في مكانكَ، كجنديٍ تحتَ أشعة شمسِ آب (أغسطس)، ولا تشعر بالدفء… رغمَ الشمس لا تشعر بالدفء أبداً…
فرح يوسف خريجة علوم سياسية وعلاقات دولية كانت مقيمة في حلب حتى تشرين الأول/أوكتوبر 2016. تقيم حالياً في فرنسا.