الدفء يهجر البيوت السورية بسبب الحرب
التحطيب بعد الحرب أتى على الأشجار تصوير هاديا المنصور
أحذية قديمة، أكياس نايلون، أدوات بلاستيكية مهترئة. تلك هي الحاجات التي يجمعها حامد (38عاماً) من حاويات القمامة، بحذر وبعيداً عن أعين الناس، وذلك لاستعمالها في مدفأته المحاطة بخمسة أبناء صغار.
ها هو الشتاء في سوريا، يطل في ظروف معيشية تزداد صعوبتها، مع استمرار واشتداد وطأة الحرب. فالمحروقات والتي تعتبر من أهم مقومات الدفء مرتفعة الثمن، فلا يستطيع تأمينها إلا الأغنياء. وحتى الأخشاب المحطّبة التي كانت ملجأ الفقراء، غدت أسعارها باهظة هذا العام أكثر من أي عام مضى. وهذا ما جعل البعض يستعينون بما يمكن توافره لدرء بعضا من برد الشتاء القارس.
يقول حامد وهو نازح من ريف حماه ومقيم في مدينة كفرنبل منذ أكثر من عامين: “كنت أشتري الحطب لكونه أرخص من المازوت، ولكن سعر طن الحطب هذا العام يوازي سعر برميل المازوت وكلاهما مرتفع جدا”. يصمت قليلا ثم يسأل “كيف سأتدبر أمر تدفئة عائلتي أمام هذا الفقر وهذا الغلاء؟”
أم غسان (41 عاماً) أرملة، تقصد مركز التحطيب بشكل شبه يومي، لا لتشتري الحطب، وإنما لتقوم بجمع الفتات منه مما يتم الاستغناء عنه بعد الانتهاء من عملية تقطيع الحطب ونقله. تقوم بتعبئة ما يسمى “النشارة” في أكياس وتحملها إلى منزلها للاستعانة به في تدفئة أبنائها الصغار بالإضافة لابنتها الأرملة أيضاً والتي زادت من أعباء أمها البائسة. تقول أم غسان: “قبل حلول الشتاء رحت أفكر مليا كيف سأستطيع شراء مواد التدفئة وأنا بالكاد أؤمّن طعام أبنائي. ومع قدوم الشتاء وبرده القارس لم أستطع أن أنتظر من يساعدنا، فرحت أجمع النشارة”. وتضيف والدموع في عينيها: “لم يعد بوسعي سوى أن ألجأ لوسائل بديلة عن الحطب والمازوت، صحيح بأن هذه النشارة سريعة الاشتعال، ولكنها سريعة الانطفاء أيضا، يكفي أن تشعرنا ببعض الدفء، إنها أفضل من لا شيء”. أم غسان زوجت ابنتها قبل ثلاث سنوات لشاب من الفصائل المقاتلة، ولكنه استشهد في إحدى المعارك لتعود إليها ابنتها ثانية، ولكن هذه المرة مع طفلة صغيرة بحاجة لنفقات إضافية.
حال أم غسان يشبه إلى حد ما حال أم عمر (40 عاماً) التي تنطلق مع أبنائها الأربعة لجمع أوراق الشجر المتساقطة في فصل الخريف، وذلك لإشعالها داخل مدفأتها في فصل الشتاء. تشكو أم عمر حالها قائلة: “بعد اعتقال زوجي منذ بداية الثورة، لم يبق لنا من معيل إلا ألله، ولذلك فأنا أبحث عما من الممكن أن أستفيد منه دون أن أدفع المال الذي لا أملك منه شيئا، ودون أن اضطر لطلب العون من أحد”.
في سنوات سابقة استعاض الكثير من أهالي المناطق المحررة عن المازوت بحطب التدفئة، الذي كان في بداية الأمر متاحا للجميع وبأسعار زهيدة، إلا أن الأمر اختلف هذا العام، حيث يشهد ارتفاعا كبيرا في أسعاره، وهذا ما جعل معظم الفقراء يستغنون عنه أيضاً، ويبحثون عن بديل أقل كلفة.
صاحب أحد محال بيع وتقطيع الحطب في كفرنبل ويدعى أبو عامر (45 عاماً) يقول: “الحطب قليل هذا العام قياساً بالعام الماضي، والسبب في ذلك يعود لعدم القدرة على جلبه من جبل التركمان وجبل الأكراد بكميات كبيرة بسبب احتدام المعارك في هذه المناطق. ولذلك نحن نعتمد على أشجار الزيتون التي يقطعها الأهالي من أراضيهم الزراعية ونشتريها منهم”. ويوضح بأن هذا الأمر أثر على ارتفاع سعر الحطب الذي يترواح سعر الطن منه هذا العام بين 55 و60 ألف ليرة سورية، أي أنه ارتفع عن العام الماضي بنسبة مئة بالمئة.
غلاء مواد التدفئة كان له أثره الخطير ليس فقط على الناس بل على الأشجار المثمرة أيضاً، وذلك بسبب اتجاه المزارعين لاحتطاب قسم منها من أجل التدفئة. وهذا أثر سلباً على الإنتاج المحلي. فبعد أن كان ريف إدلب من أكثر المناطق السورية شهرة بزيت الزيتون، أصبح هذا العام نادراً جداً ولا يغطي حاجة قسم قليل من المستهلكين. وكذلك فإن سعره شهد ارتفاعاً لم يسبق له مثيل. تقول أم ساهر (50 عاماً ) :على الرغم من أنني أعاني من شحوم وكولسترول في الدم فإنني استعمل الزيت النباتي بدلا من زيت الزيتون الذي أصبح سعره باهظاً حيث يقدر ب 2200 ليرة سورية بعد أن كان سعره 1200 ليرة سورية العام الماضي”.
البيرين إحدى المواد البديلة عن المازوت والحطب اتخذها البعض وسيلة للتدفئة. وهي عبارة عن لب الزيتون وقشوره، تقوم مكابس الزيتون بصنعه على شكل قوالب بعد الانتهاء من عملية عصر الزيت، وبعد تجفيفه لمدة عام كامل يتم بيعه بغرض التدفئة. محمد (25 عاماً) وهو أحد مشتري البيرين يقول “البيرين يوازي الحطب من حيث سرعة الاشتعال والدفء، ولكنه يختلف عنه بأنه لايصمد في المدفأة كثيراً”. ويوضح بأن ما دفعه لشرائه أن سعره ارخص من المازوت والحطب بحوالي النصف، فسعر طن البيرين هو 35 ألف ليرة سورية.
لم تكن المحروقات فقط همّ الأهالي في الشتاء وإن كانت الأهم، وإنما كان هنالك أيضا أعباء تأمين المدافئ والملابس الشتوية والأغطية التي ارتفعت أسعارها هي الأخرى أضعافاً مضاعفة. ولم يعد بوسع النازحين والفقراء شراءها إلا من محلات الأدوات المستعملة هذا إن توفر ثمنها.
أم جمال، ستينية تعيش مع كنتها الأرملة وأحفادها الثلاثة. اضطرت لطلب العون من الأغنياء لشراء مدفأة،. تقول أم جمال: “لم أكن متسولة في حياتي كلها، ولم اعتد طلب أي شيء من أحد، ولكن ما نمرّ به من ظروف معيشية صعبة أجبرني على ذلك”. وتؤكد: “إن لم أفعل ذلك فلن أجد من يتفقد أحوالنا حتى لو أهلكنا البرد”.
من جهة أخرى يوضح أبو رائد (41 عاماً) وهو أحد أعضاء المجلس المحلي في مدينة كفرنبل “أن المجلس لا يستطيع استيعاب جميع الفقراء الذين تزداد أعدادهم يوماً بعد يوم”. ويقول: “إمكانيات المجلس ضعيفة وخاصة بعد توقف بعض المنظمات عن دعمه لسيطرة النصرة عليه مؤخراً، ولذلك نحن نعجز اليوم عن تقديم سلات غذائية كافية، فكيف بمستلزمات الشتاء؟!” ويعبر عن أسفه لحال السوريين مع عدم قدرة المجلس على المساعدة ويضيف بألم: “تستمر حياة السوريين مع معاناة فصل الشتاء، متسلحين بالصبر الذي لا بديل عنه بالنسبة لهم، وكلهم أمل أن تنتهي الحرب ويعود الدفء إلى منازلهم”.