أم يارا نبع أمل من قلب الألم
عندما تنظر إلى السماء ليلاً تأمّل واعتبر، فالقمر لا يحتاج للنور لكنّه يطلع كل ليلة لينير السماء. كثيرة هي أحزان البشر، قلّة يستطيعون من خيوط أحزانهم نسج الأفراح للآخرين.
هذه قصة أم يارا التي تحمل بيديها خيوط الأمل رغم كل معاناتها. كانت أم يزيد ويارا شقيقته، أصبحت أم يارا وحدها. كانت زوجة أحمد، وهي الآن أرملته… تسكن أم يارا مع ابنتها عند أطراف القرية، بعدما أودت الحرب قبل عام بحياة زوجها وابنها. أهلها جميعهم خارج سوريا، لا يعرفون عن حياتها إلّا القليل، بقيت هي فوق تراب الوطن، مقاومة قوية كشجرة السنديان. في كل يوم تنقش صفحات من الإصرار والكد و العمل.
تحمل إبرة النسيج بيد وبيدها الأخرى تحمل عنفوان البقاء، تعلمت فن النسيج من والدتها قبل وفاتها وأتقنت هذا الفن أيما إتقان! كانت تنسج الملابس وتبيعها. عندما تدخل لبيتها تدهشك شدة ترتيبه رغم بساطته. في بيتها زاوية لتلك الخيوط الملونة ولقطع النسيج خاصتها. عندما تنظر لعملها ستشتري رغما عنك، ليس من باب الشفقة، بل لأن كل قطعة تحيكها يداها تحكي ملحمة بطولية، تروي أيامها وتفاصيل حياتها. هناك قميص أحمر بلون الدم، وتلك قبعة سوداء طرزت عليها قلباً لم يكتمل ، انعكاساً لوحدتها. هي لا تكرر حياكة القطعة أبداً، فإن اشتريت قطعة من عندها وارتديتها لن ترى إنساناً غيرك يقتني مثلها. هكذا كانت متفرّدة بعملها، تلاقي ضيوفها وزبائنها بالبسمة رغم قلبها المتعب…
ذات يوم كانت الشمس تلوح عند المغيب، والقمر ينتظر غياب الشمس ليطلع. كانت أم يارا كعادتها تجلب بعض الحاجيات للعشاء. كانت تمشي مستعجلة فالسماء كانت وقتها ملبدة بالطيران ماطرة بالقذائف… سمعت صوت بكاء، ورغم استعجالها هرعت تبحث عن مصدر الصوت، وبلحظة رهيبة أبصرت بيتاً مدمراً وطفلتين على الركام تبكيان … أناس كثر تجمعوا، وأصوات تقول: إنا لله و إنا إليه راجعون. طفلتان غريبتان عن الديار. عرفت حينها أن أهل الفتاتين الصغيرتين قد قضوا جميعاً. كانوا قد أتوا قبل شهر من الرقة إلى درعا هرباً من مآسي الحرب.
طفلتان غريبتان وحيدتان لا حول لهما و لا قوة. قالت أم يارا تحدّث نفسها: سآخذهما ليسكنا عندي، واعتبرهما أخوات ليارا.
سألها بعض لناس الذين كانوا في المكان بعدما علموا بنيتهما اصطحاب الفتاتين “ألست فقيرة الحال و ليس لك معيل؟”
أجابت أم يارا: “الله معين أنا فقدت زوجي وابني، و لكن هما فقدتا البيت والأهل. أنا أنسج الملابس وأبيعها و الله لن ينسانا”.
فتحت أم يارا ذراعيها فأقبلت الفتاتان على حضنها المتعب العابق بالأمل . أقبلتا وكأنما يعرفانها منذ زمن.
قالت إحداهما: “أنا بشرى”.
والأخرى قالت: “أنا أروى”.
كانت تلك لحظة يحلّ فيها الأمل مكان الألم وما أعظمها من لحظة.
لم تكن تدري أم يارا أن الخيط الذي بيدها تحول أملاً و نوراً قبل أن يتحول لقطعة قماش. وكعائلة واحدة عاشت كل من بشرى و أروى مع يارا وأمها تلعبان وتضحكان، فقد وجدتا حضناً حنوناً يضم غربتهما.
هنا ومن قلب الأحزان تنثر أم يارا الورود. لم تفكر بنفسها فحسب، بل أدركت أن العطاء لا يتوقف عند أي ظرف. هي اليوم أم يارا وبشرى وأروى و هي نبع أمل من قلب الألم.
بسمة أمل (٢٨ سنة) من محافظة درعا، أم لولدين، تخرجت من جامعة دمشق. لجأت الى الأردن بسبب الوضع في محافظتها ثم ما لبثت أن عادت الى مسقط رأسها للعمل في مجال الدعم النفسي للأطفال.