من هنا كانت غرفتي
بعد المظاهرات الحاشدة التي قامت في سوريا، بدأت حملات الاعتقال والمداهمات تنتشر في المناطق التي انتفض فيها المواطنون ضد النظام معلنين الثورة. كانت مدينتي داعل، التابعة لمحافظة درعا، واحدة من أولى المدن التي خرج سكانها وشاركوا بأكبر المظاهرات. وكانت داعل هدفاً من أهداف هذه الحملات. وكنا نعلم أن دورنا بهذه الحملة ليس بعيداً.
كان هناك حملات شرسة شنتها قوات النظام و”الشبيحة” (تسمية تطلق على المتعاونين مع الجيش النظامي) على القرى والمدن المجاورة لداعل والتي شهدت حراكاً ثورياً، لذلك كنا ننتظر دورنا ونعلم اننا على قائمة الاقتحام . الكهرباء مقطوعة وشبكات الجوال والأنترنت والهاتف الأرضي كلها قطعت تماماً، وتم عزلنا عمّا حولنا. أجواء نشهدها لأول مرّة، هي أقرب لأجواء الحرب التي لم نخضها يوماً. فلم يكن باستطاعة شباب المدينة إلّا أن يقيموا بعض الحواجز والعراقيل البسيطة من حجارة وأغصان أشجار عند مداخل المدينة. لعلّها تثير شيئاً من الريبة والخوف في نفوس الشبيحة. ولعلّها تعيق دخولهم إلى المدينة، أو تتيح لنا بعض الوقت لنستعد لدخولهم .
خوف وقلق سيطر علينا في ظل هذه الأجواء الملغومة، ونحن لا نعلم ماذا سيحدث، وماذا سنواجه. كل ما نعرفه أن هناك من الشباب والرجال من سيتم اعتقالهم، وانه لن يكون بمقدورنا إلّا الدعاء ثم الدعاء.
أيام مضت على هذه الحال ونحن في هذه العزلة التي شلّت حركة المدينة. أفكاروتخيّلات كانت ترافقنا كل يوم، ما الذي يمكن أن يقوم به هذا النظام؟ نحن نعرف حق المعرفة مدى شدة وضاعة هذا النظام، ومدى طغيانه. ليس هناك ما يردعه عن أي تصرف وحشي أو دنيء. مضت ليلة الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، ومازلنا على نفس الحال بلا كهرباء أو ماء. أصبحنا نضخ المياه من الصهاريج، وأصبحنا نوفر في استخدامها، فقط للضرورة القصوى. لم نكن نعلم إلى متى سيستمر هذا الحصار.
شوارع المدينة أصبحت هادئة جداً، والناس يدخلون إلى منازلهم ويغلقون أبوابها مع مغيب الشمس، فالظلام يصبح دامساً. الشوارع خالية إلّا من بعض الشباب الذين قرروا حراسة مداخل الحارات من أي دخيل أو جاسوس ممكن أن يستغلّ هذه الظروف. ولكن اليوم وقبل آذان المغرب، ارتفعت أصوات الاطفال في منازلهم عندما عادت الكهرباء إلى المدينة فجأة. فرحنا فعلاً بعودة النور والهرباء إلى داعل، لكن تخلل هذه الفرحة الخوف والقلق والاستغراب، لماذا عادت الكهرباء إلى المدينة؟ هذا التعجب لم يطل، فمع حلول الفجر وخروج أشعة الشمس الأولى، كان صوت الدبابات يقترب أكثر وطلقات الرصاص نسمعها من جميع الاتجاهات. استمرت تقترب حتى رأيتها، دخلت المدينة تتجول بين شوارعها تغتصب حرمتها وتدنس أرضها. وانتشرت قوات النظام في جميع أرجاء داعل. وأقامت الحواجز على المداخل وبين الحارات، وعلى أسطح الأبنية العالية وضعوا القناصات.
كان بيتنا في موقع لانحسد عليه في ظلّ هذه الأحداث. كان يقع على الشارع الرئيسي للمدينة، بجانب مبنى المخفر الذي تمركز القناصة عليه، وقبالة دوار المدينة، الذي أقاموا عليه الحاجز الرئيسي، لانه في وسط المدينة، أخذه الضابط المسؤول عن الشبيحة موقعه، محاطا بالدبابات والسواتر. ومن جهة أخرى كنا بجوار المقبرة التي أقاموا بمحاذاتها حاجزاً أيضا. كنا بين حاجزين قذرين جداً، وكانت غرفتي وشرفتها تطل مباشرة على الشارع. وبين الحين والآخر، كنا نسمع طلقات رصاص من هنا أو من هناك لا نعلم سببها. ثم أدركنا أنهم كلما شعروا بالخوف من أي حركة أو حتى عندما يشعرون بالملل، كانوا يطلقون الرصاص هنا وهناك، بأي وقت كان، ليلاً أو نهاراً لإثارة خوف الناس وريبتهم. وأصبحت مسألة عبور الشارع لغرض ما، مسألة حياة أو موت، وقضية استشهاد. القناصة كانوا دوماً بالمرصاد، حتى القطط لم تسلم منهم. لا أحد يعلم في أي لحظة يمكن أن تصيبه رصاصة قناصة ما أو وابل من رصاص رشاش روسي الصنع. وبسبب موقع بيتنا الحساس في هذه الظروف، وبفعل الطلقات النارية، اصبحت واجهة بيتنا مثقبة كلوحة تدريب مرسومة بمختلف طلقات الرصاص، وبجميع الأماكن. كثيراً ما كانت الرصاصات تصطدم بمنزلنا وتستقر على جداره. لم يتوقف الأمر هنا، فمع ازدياد وتيرة إطلاق النار، اخترقت مرة إحدى الرصاصات غرفتي، دخَلَت فيما كنت نائمة على تختي، واستقرت مباشرة فوق رأسي. ما زال صوتها يرن في أذني، ورائحة البارود لم تفارقني. لقد كانت شعرة تفصل بيني وبينها، بيني وبين الموت. لبضعة دقائق لم أستوعب ما الذي جرى. كنت انظر إلى مكاني ومكان الرصاصة. كيف لم تخترق رأسي. استجمعت قواي واستيقظت من الصدمة،وحمدت الله كثيراً، ثم انهمرت دموعي فجأة. لقد شعرت بالخوف، وعلمت أنه لم يعد بيتنا آمناً، وأن ما نواجهه سيسلبنا الكثير، ليس فقط الأمان بل أشياء كثيرة، وربما أشخاصاً أيضاً، وأن علينا أن نتمسك بالشجاعة. وأن نحمي ثورتنا ولو حتى كان الثمن أرواحنا، وأن نتخلى عن كل شيء، فداءً لهذه الثورة وفداءً لسوريا. لنعيد لوطننا هذا كرامته وهيبته بعيداً عن هذا الطاغية وزبانيته.
ديانا الحريري (25 سنة) من محافظة درعا. نشطت منذ بداية الحراك المدني عبر التظاهرات في مدينتها ثم اضطرها القصف المستمر للجوء إلى الاردن حيث أنجبت طفلتها الوحيدة. تعيش ديانا حالياً في جنوب تركيا مع عائلتها.