قصتي في جنديرس
مجموعة من النازحين ينتظرون فجراً أمام سكة القطار في اليونان - تصوير أحمد الخليل
"عدت من جنديرس والفرحة تملأ قلبي. كنت سعيدة جداً بعودتي، ولن أغادر بلادي مرة أخرى. ولا إلى أي مكان مهما كان الثمن"
عاد زوجي من رباطه (خدمته العسكرية) في ريف عفرين، بعد غياب دام 15 يوماً. كان قد أرهقه التعب. لم يكترث بي ولا بالأولاد، لم يرنا. تناول طعامه وألقى رأسه على وسادته وغط في نوم عميق.
لم أشأ ازعاجه، علمت مايعانيه وهو على الحاجز. جلست أمامه انظر اليه وكأن به تعب مئة عام. لم أرغب بإزعاجه. تركت الغرفه أنا وأبنائي وخرجنا…
بقي يغطّ في نومه حتى اليوم الثاني. وفي الصباح استيقظ نشيطاً، سألته: “ما هذا التعب كله”؟ أجابني: “لقد مرت عليّ ليال كثرة وأنا لا اعرف طعم النوم، لقد تعذبت كثيراً في هذه الرحله يازوجتي، لا تؤاخذينني”. وبدأ يتودد إلى الأطفال ويحتضنهم ويقبلهم، فيما تلك البسمة المصطنعة على وجهه…
مرّ النهار بطوله وهو معنا، تكلمنا كثيراً عن عمله هناك وعن طريقه العيش. قال لنا: “سآخذكم معي إلى تلك القرية، هناك الحياه هادئة ليس من طائرات ولا حرب، ولن أستطيع البقاء هناك كل مرة 15 يوماً ثم أعود إلى هنا. عندما تأتون معي على الأقل أعلم أنكم بأمان، وأنني انتهي من نوبة الحراسة لأعود لإلى منزلي وزوجتي وأطفالي”.
حينها بدأت تلك الأفكار تروادني. أأذهب مع زوجي وأعود لأتبعه كما أخذني معه إلى ريف الرقه. هل سأعود إلى العيش وسط ناس لا أعرفهم مثل الدواعش. عندما تذكرت تجربتي الماضية رفضت وبشدة. ولكن بعد اكثر من مشكلة مع زوجي لم أجد حلاً سوى الخنوع والرضوخ أمام طلباته.
وفعلاً حزمنا أمتعتنا وهيأنا أنفسنا للذهاب معه. وقبيل مغادرتنا قال لي زوجي: “لا داعي لكل لأخذ أي شيء سوى ملابسك. فهناك الكثير من البيوت التي اغتنمها الجيش الحر، ونستطيع العيش في بيت مفروش هناك.”
لم أكن مرتاحة أبداً لتلك الفكرة، لكن ليس علي سوى أن أسكت وأرضى بما قسم لي .
وبعد عناء طويل وتعب الطريق وصلنا أخيراً إلى منطقة عفرين، بلدة جنديرس. إسم البلدة أثار اهتمامي لغرابته وبعد السؤال قيل لي أن الإسم مستمد من قائد روماني يدعى إيرس عسكر في المنطقة مع جنده، ومع مرور الأيام اكتسبت البلدة إسم جنديرس. أو جند إيرس، ولا تزال بعض الآثار الرومانية ظاهرة في نواحي البلدة.
ذهب زوجي إلى مقره القريب من النقطة التي توقفنا عندها. اصطحبنا أحد أصحابه إلى غرفة صغيرة مهجورة بجانب المقر، كي نسكن فيها حتى نجد منزلا. كثيرة البيوت في جنديرس، ولكن أغلب قاطنيها من دمشق وتحديداً من الغوطة الشرقيه، بعد أن هجرهم النظام من دمشق وتم إيصالهم إلى تلك المنطقه بالباصات الخضر.
دخلت تلك الغرفة المظلمة، لا توجد نافذة، ولا منافع، اعتقدتها للوهلة الأولى مكباً للنفايات لشدة اتساخها وكثرة الاكياس الفارغة داخلها. جلست أرضا أنظر في وجه زوجي نظرة ألم. إلى أين تريد أن تأخذني أيضا؟ وكم من مرارة سأعاني حتى تتركني أعيش كباقي البشر، مع أطفالي؟ دار في خاطري هذا الكلام الذي لم يعرف سبيله.
وبعد معاناة أيام في تلك الغرفة انتقلنا إلى شقة مفروشة في أحدى أحياء جنديرس. فرحت جداً اني سكنت في منزل جميل أعطوه لزوجي. وبعد أيام بدأت أحس بصعوبة الحياة هناك. أصوات انفجار الألغام، كانت أشد من صوت غارات الطائرات.
ولا أمان هنا، كنت وحيدة مع اولادي في المنزل حين سمعت طرقات على الباب أكثر من مرة. كنت أحس بوجود أحدهم خلف الباب. لكن لا أحد يجيب عند سؤالي، بدأت أخاف على نفسي وأطفالي. هناك لم نكن نعرف أحداً. ولا يمكننا أن نذهب إلى أي مكان. وزوجي يقضي معظم وقته خارج المنزل.
جاء زوجي إلى المنزل مساءً، أخبرته ما حصل، وأخبرته أنها ليست المرة الأولى. منذ أن سكنّا هذا المنزل ونحن نشعر بوجود أحد يراقبنا. أصاب زوجي القلق علينا، وأخبرني أنه سيهتم بالأمر وسيراقب من يحاول الدخول الى المنزل. قام زوجي بمراقبة المنزل ولكن عبثاً، لم يأت أحد .
وبعد نقاش طويل قررت أنا وزوجي العودة إلى بلادنا فهناك الأمان. هنا أشبه بالسجن، كنت أرى وجوه الأكراد تحدق بنا. ينظرون إلينا على أننا اغتصبنا أرضهم .نحن بنظرهم معتدين، وكيف لإنسان أن يحب من اعتدى عليه.
هناك لم أسمع آذان الصلاة. كأنه لا يوجد إسلام في تلك المنطقة أبداً. كانت الحياة أشبه بحياة بعيدة جدا عن عالمنا.
عدت من جنديرس والفرحة تملأ قلبي. كنت سعيدة جداً بعودتي، ولن أغادر بلادي مرة أخرى. ولا إلى أي مكان مهما كان الثمن. اتفقت انا وزوجي على ذلك، حتى ولو كلفني الأمر طلاقي من زوجي، فلن أترك بلادي إلى أي بلد آخر .
ضحى عباس (40 عاماً) من ريف إدلب، ربة منزل، وأم لخمسة أبناء.