يوم ودّعت منزلي وبدأت رحلتي
يوم الجمعة 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، لم أكن أعلم أنه سيكون يوماً مفصلياً في حياتنا إلى ذاك الحد. كانت والدتي تبيت معي، وغادرت في الصباح الباكر إلى بيتنا في دمشق. حماتي (والدة الزوج) هي الأخرى ذهبت في الصباح الباكر لعيادة أخيها المريض. بقيت لوحدي مع طفلتي الرضيعة إيمار كانت بعمر الخمسة أشهر.
قرابة الساعة السادسة والنصف مساءً اتصل بي أخي صهيب ليخبرني أنه ينوي زيارتي، رحبت به ولكنني أضفت “الكهرباء مقطوعة ولدينا شهيد اليوم (وهي إشارة إلى احتمال أن تكون ليلة عنيفة)”.
رنّ الهاتف مرة أخرى، كانت والدتي تسألني إذا ما وصل صهيب، أجبتها بالنفي. قالت إنه تأخر، وهي تخشى أن يكونوا قد أوقفوه على الحاجز. أنهيت اتصالي معها وأنا أطمئنها أنني سأستعلم الأمر، اتصلتُ به فأجاب، بدا صوته عاديا، لكن دون ضوضاء الشارع.
سألته: ماذا حدث؟ تأخرت!
أجاب: لا شيء، تأخر الباص. نسيت أشيائي وذهبت لاسترجاعها.
سألته: هل أوقفوك على الحاجز؟
ردّ بالنفي وسألني عن اسم والد أسامة. ردّيت عليه بغضب: ما اسم ابيه؟! ماذا تريد باسم أبيه الآن، لماذا تسأل؟!
قال: شو اسم أبوه؟
أجبته بانفعال لكي أتخلص من سؤاله وبغباء دون تفكير: ما اسم أبيه، اسمه أحمد!
قال أنه لن يتأخر، نصف ساعة ويكون في المكان.
رن جرس البيت أكثر من مرة، فهرعت لفتح الباب. يبدو أن مَن وراء الباب على عجلة من أمره.
شعرت بالخوف لوهلة وخطر في ذهني ذلك الخاطر. تابعت مسيري نحو الباب، نظرت من الثقب لأرى صهيب أمام الباب تماماً، بالكاد رأيت وجهه المتجهم بسبب الإنارة الخافتة. رأيت شخصا يقف عند أول الدرج. لم أدقق النظر كثيراً، وإلّا لكان باستطاعتي رؤية سلاحه وزيّه العسكري، بدا شخصا عاديا ينتظر صهيب، ظننته صديقه. واستبعدت كل الخيالات التي جالت في بالي.
فتحت الباب ليسرع شخص آخر كان مختبئا بجانب الباب على ما يبدو. كان رجلا ضخم الجثة، متوسط العمر، ذا لحية خفيفة. أمسك بصهيب ووضع فوهة مسدس كبير على رأسه وصرخ : أين هو زوجك؟
أجبته: ليس هنا.
كان يدفع الباب، وأنا أدفعه من الجانب المقابل وأقول: انتظر! أنا لا أضع غطاءً على رأسي! لا يوجد أحد هنا!
تمكنت من تغطية رأسي بطرف ردائي وهرعت إلى الداخل.
رأيته مع صهيب في آخر الممر المؤدي إلى غرفتي، سألني: من هنا؟
أجبته: لا يوجد أحد، أنا وابنتي الصغيرة فقط.
قال: أين هي البنت؟
قلت له: هنا، نائمة في سريرها.
خطا وأمامه صهيب نحو الباب، أعاد سؤاله وهو يصوب سلاحه نحو أخي: أين هو زوجك؟
كررت جوابي: لا أعرف!
أعاد سؤاله للمرة الثالثة وهو يشد بقبضته على صهيب: أين هو زوجك؟
قلت له: لا أعرف، ترك المنزل.
قال: ترك البيت؟ هربان يعني.. استطرد بالسؤال: منذ متى؟
أجبت: تركه عقب مدة من إطلاق سراحه. كان معتقلا.
قال باستهزاء: معتقل؟ معتقل رأي وضمير يعني؟ زوجك قتل ثلاثة من رجال الأمن!
قلت له بتحدٍّ: لا، زوجي لم يقتل أحداً. وهو ضد القتل من أي طرف كان.
صرخ في وجهي: انتم ضد القتل؟ والذين هجموا على المفرزة اليوم، زرعوا لنا لغماً، لم تصلك أخبار الشاب الذي قتلوه؟
قلت له: لا لم أسمع الأخبار. (طبعا كنت أعرف قصة الشاب ولم يكن قد تم التأكد من رواية مقتله حينها).
عاد وقال: “ما بدك تحكي وينو جوزك؟؟ وينها البنت؟” هاتيها للبنت ! بدي آخدها.
كانت إيمار مستلقية في سريرها تراقب ما يجري بهدوء بعد أن أيقظتها أصواتنا العالية. اقتربتُ منها.
قال ما بدك تحكي؟! هلأ بجيب تنين يحمّلوها. لحتى يسلم حالو!
قلت له: حرام عليك.
لحظات من الصمت وهو يتأمل إيمار، قبل أن يقرر: سأتركها، لأنني إنسان.
اقتاد صهيب نحو الخارج، و عند باب غرفتي، خاطبني قائلا: إذا لم يسلّم زوجك نفسه، سيعود أخاك بعد يومين محمّلاً.
في تلك الأثناء كان العنصر المرافق قد دخل وبحث في بقية الغرف. كانت أنوار البيت كلها مضاءة عندما غادروا.
غادرت منزلي بعدها إلى غير رجعة، وبدأت رحلة التواري، متنقلة من منزل إلى منزل كلما دعت الضرورة، إلى أن استقر بي المطاف في غوطة دمشق بعد اشتداد الطوق الأمني في دمشق.
أما صهيب فقد قضى بعدها شهرين في زنازين المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، وخرج سالماً بحمد الله. ليعاد اعتقاله لليلة واحدة فقد. ثم اعتقل صباح يوم عيد ميلاده في 25 من تشرين الثاني/نوفمبر 2012 ، خلال مداهمة للأمن العسكري للشقة التي يقيم فيها مع أخي إقبال وعمي يوسف وقريبنا بلال. يقتربون اليوم من إكمال العام الثالث على اختفائهم دون خبر يشفي الصدور، يطمئننا عن حالهم أو على الأقل عن مكان احتجازهم. خلّف عمي وراءه زوجة حامل، لم ير جنينها النور، وطفلين وعائلة كبيرة. تركوا جميعهم الكثير خلفهم.
ولدنا في قرية صغيرة في ريف درعا، ثلاثة أخوة لا رابع لنا، لأبوين عظيمين منحانا كل الحب والدعم طيلة سني عمرنا. هما الآن ينتظران عودتنا نحن الثلاثة، يصليان كل يوم لتجتمع عائلتنا الصغيرة مرة أخرى. أعلم أننا لسنا حالة فريدة في سوريا، فألمنا تعيشه عشرات الآلاف من أسر المعتقلين الذين بات عددهم يربو على المئتي ألف، لكننا لم نقطع الأمل، ولن نيأس أبداً. رجاؤنا بالله كبير، ونحن على يقين أنه لا ينتظر معتقلينا إلا إحدى الحسنيين، الحرية أو الشهادة.
أخي صهيب خسر إلى جانب دراسته الجامعية، عافيته ونور وجهه، لكن من الصعب أن يكون قد خسر نور قلبه. سنحمل نور قلبك يا صهيب لينير دربنا. سنحمل اجتهادك، إخلاصك، حبك للإنسان، ورحمتك .. إلى أن ننعتق من نير العبودية وظلمة الجهل لك حبّي أينما كنت.
ميمونة العمار (28 عاماً)، من مواليد قرية نمر بريف درعا، حاصلة على إجازة في هندسة الحواسيب والأتمتة من جامعة دمشق اضطرت لقطع دراساتها العليا لتلتحق بالثورة، تم اعتقالها مع زوجها على خلفية مشاركتهما في وقفة تضامنية مع أهالي المعتقلين التي جرت أمام وزارة الداخلية في ١٦ آذار/مارس 2011. بعد انتقالها مع زوجها وطفلتها للعيش في غوطة دمشق الشرقية في تموز/يوليو 2013 عملت في إدارة مكتب ريف دمشق لمنظمة الحراك السلمي السوري، ثم إدارة مكتب حماية الطفل حيث تعمل مع فريق المكتب في تدريب عناصر المجتمع على مبادئ حماية الطفل، والاستجابة لحالات الأطفال المعرضين للخطر.