يوميات الحصار في حلب…
"تلكَ تقول "يا روحي يا بابا" وتلك "يا كبدي يا إبني" النحيب النحيب النحيب... رأسي سينفجر
إحداهن تبكي على زوجها وإحداهن على ولدها وأب يبكي على إبنه الذي كان يلعب في الشارع"
لم تكن ليالي حلب كليالي المدن الأخرى، كانت أشد… فالقذائف بكل أشكالها تتساقط كالمطر على مَن بقي صامداً في المناطق المحاصرة. الخوف والتوتر سيّدا الموقف. لا أحد يعلم تمتى يتحوَّل من شخص على قيد الحياة إلى ميِّت…
هل كانت حلب تنام في تلك الليالي؟ أنا متأكدة لم تنم!
في 23 أيلول/سبتمبر 2016 أنا أيضاً لم يغفُ لي جفن، حالي كحال آلاف المحاصَرين. مرَّتْ الساعاتُ ثقيلةً على روحي، وكنتُ أمضيها أنا وأهلي متنقلين في المنزل عبر الغرف التي نظنُّها أقلَّ خطورة، وكلنا خشية أن نفقد أحداً منا، فالخوف من الفقدان صارَ بالنسبة إلينا عادة.
أُمسكُ بهاتفي علّني أحصل على أي خبر جديد أستطيع عبره أن أُخفِّف من توتري… لكن عبث، الأخبار تزيد التوتّر! ظلَّ الوضع على ما هو عليه حتّى الفجر…
أصوات النساء والأطفال تضج في الشارع وتزلزل الأرض… أصوات مختلطة ومرتفعة كما لو أنها تحصل داخل بيتي، لم أفهم منها شيئاً. لكن سمتها المشتركة كانت البكاء على فقدان الأعزّاء.
تلكَ تقول “يا روحي يا بابا” وتلك “يا كبدي يا إبني” النحيب النحيب النحيب… رأسي سينفجر.
هكذا كانت يومياتنا يوميات الحصار في حلب…أن تبقى مستيقظاً وتتنظر دورك في طابور المدنيين الذين ينتظرون الصواريخ، هل سيسقط الصاروخ في شارعك أم في الشارع الذي خلفك أو الذي أمامك؟! هل سيسقط علي بيتك أم علي بيت جارك؟
تفكّر بذلك وأنتَ تتنقّل بين غرفة الجلوس والحمام… خائفاً. لا تنام، إلاّ أنَّ النوم يغلبك وتستيقظ صباحاً لتؤمِّن لأولادك لقمة طعام كي يسدوا رمقهم طيلة النهار، لأنه لا يوجد في البيت ما يغنيهم عن جوع…
وتمشي في الطريق باحثاً عن رغيف خبز وأنتَ تفكّر بألف شيء: الموت وأولادك والخوف… وأنتَ متأكِّد أنَّ الكثيرين مثلك يفكّرون مثلما تفكّر. وأنتَ تمشي، تقصف الطائرة وتتناثر شظايا الصاروخ العنقودي ويصبح المُشاة بين مصابين وشهداء…
قلتُ شهداء؟ أشلاء شهداء…
وإن أُصبتَ ستبدأ بانتظار الشخص الذي سيأتي ويُسعفك إلى المستشفى، فلا توجد سيارات إسعاف كافية وقد تُستهدف هي الأخرى وقد تأتي متأخرة بسبب القصف… ستنتظر أي سيارة كي تأتي، لكنَّ أزمة المواصلات كبيرة بسبب قلة المحروقات.
أين مُسعفي؟ مَن سيُنقذني؟ مَن سيُلملمني كي أشكره في ما بعد (إن بقيت على قيد الحياة).
ثمَّ تشاهد السيارة الزراعية التي تحمّل الجميع فوق بعضهم البعض… تنظر إلى مكان إصابتك وأنت تنزف ثمَّ تنظر إليهم وتقارن!
ذاكَ فقدَ عينه، آخَرٌ فقد ساقه وصارت مقطوعة وتخمّن أنهُ مُغمي عليه لأنهُ رأي منظر الساق… وترى آخراً قد أصبحَ نصفين… وترى شخصاً قد حالفهُ الحظ ولم يصبه أي مكروه، لكنه يحمل في كيس أسود أشلاء شخص ما فقده! ما عدا أصوات النحيب والبكاء…
أعلم أنّ ذلك صار عادياً بالنسبة للقارئ، لكن لن يصبح عادياً بالنسبة لمن يعيشهُ.
إحداهن تبكي على زوجها وإحداهن على ولدها وأب يبكي على إبنه الذي كان يلعب في الشارع…
وأخيراً ستصل إلى المستشفى وترى فيه الإكتظاظ، مسلخَ دم وأجساد مرمية… قد تموت وأنتَ تنتظر دورك، والطاقم الطبي يعمل بحسب أولوية الحالة…. لكن قد تكون حالتك ليست بخطرة وتموت نتيجة الزيف!
ممرات المستشفيات ممتلئة بالمصابين، وقد تُجرى العمليات فيها على وقع أصوات البكاء! في ذات الممر، ترى المُصاب والمقتول ومَن يتلفّظ أنفاسه الأخيرة، ترى المفجوعة والمُغمى عليها وترى الطفل المصدوم، والطفل الباكي… ترى وترى… ما الذي لا تراه وسط كل هذا الموت وكيف لعقلك أن يتحمَّل؟!
قلتُ لك ممرات المستشفى، سأنقلك إلى الرصيف من أمام المستشفى… فهناك أيضاً مصابين ينتظرون نقلهم إلى مستشفيات أُخرى، بسبب اكتظاظ المستشفى الذي يقفون بجانبه، لكنّ النقل يحتاج لمواصلات، والمواصلات على قلتها تحتاج لأن يهدأ القصف ولو لدقيقة! لكن مُحال!
كل ذلك وهناك ضحايا ما يزالون عالقين تحت الأنقاض، لا يجدون مَن يُنقذهم بسبب قلة الموارد.
في تلك الأيام العصيبة، خيَّمَ الموت على حلب وخلت شوارعها من الناس خوفاً من حمم الغضب التي تُلقيها الطائرات الحربية. وحتى الملاجئ المتواضعة والطوابق الأرضية، لم تعد تفي بالغرض لحماية المدنيين، وذلك بعدما أدخلت إلى المعركة صواريخَ جديدة، صواريخ إرتجاجية تُحدث ضغطاً هائلاً وتُدمّر مبانٍ سكنية بأكملها.
أمّا الدفاع المدني، فقد باتَ شبه مشلول. يقفُ لا حول له ولا قوة في ظل القصف الجنوني، واستحالة تغطية كل المناطق وسط كل هذه الظروف الصعبة!
في تلكَ الأيام، صارَ المُحاصَرون في حلب في حالة أقرب إلى الجنون! وأنا جُننتُ أيضاً، فلا أعرف إن كنتُ الآن عاقلة! فهذه المشاهد لا تغيب عن بالي، تدعو إلى الجنون… مشاهد القتل والخوف والفجيعة.
إلى أن جاء اليوم الذي خرجتُ فيه من حلب… خرجتُ من الحصار، تاركةً غيري يعيشُ ما عشتهُ. يا لوقاحة الأيام!
عائشة المعتز (22 عاماٌ) من حلب، مخطوبة. كانت طالبة في السنة الثانية في كلية الآداب – قسم اللغة الفرنسية، لكنها فقدت دراستها بسبب التحاقها بالثورة، وهي تعمل الآن في منظمات المجتمع المدني.