هرباً من آلة القتل العبثية

في 15 آب/أغسطس 2012،  وكان ذلك في شهر رمضان، كان أخي عائداً إلى منزله، قتله القناص المتمركز في بناية البلدية، في موقع كان يسمح له التحكم بمصير العباد، وكان منزل أخي في مرمى الاستهداف. بعد مقتل أخي نزحت العائلة من المنزل، ولم تتمكن من العودة بعد تحرير دوما وعودة الأهالي إليها، و ذلك بسبب غارات الطيران التي لم تتوقف عن استهداف المدينة. ترك أخي زوجة وثلاثة أبناء وفتاتين أكبر أولاده كان في الخامسة والعشرين من عمره، وعليه وقعت  مسؤولية العائلة، أمّا أخويه ففي المدرسة. ابنة أخي الكبرى كانت متزوجة وهي أم لطفلين، اعتقلوا زوجها ولا تعلم عنه شيئاً. أما ابنة أخي الصغرى كانت مخطوبة.

استقرت عائلة أخي في منزل لأقربائنا، كانوا قد نزحوا من المدينة ولم يعودوا. وبعد ثلاثة أشهر على مقتل أخي، وفي حفل متواضع قمنا بتزويج ابنة أخي إلى خطيبها، وذهبت معه ليستقرا في العاصمة دمشق.

مر عامان والوضع يزداد سوءاً، وآلة القتل والتدمير تزداد شراسة. وأضاف النظام المجرم الحصار ليخنق من تبقى من أهالي الغوطة الشرقية. كان النظام يغلق المعبر الأساسي الذي يدخل منه الغذاء، وهو معبر مخيم الوافدين الذي يقع في مدخل مدينة دوما باتجاه منطقة النازحين، حينها يتوقف القصف بشكل جزئي، ويصبح حديث الناس الشاغل الجوع، وكيفية مواجهته. وعندما يفتح المعبر ويدخل الأغذية بعد أن يضيف عليها أعباءً مالية كبيرة، يقصف المدينة ويرتكب المجازر. كان النظام يلعب بسلاحين، جمع بين سياسة الموت بالقتل والتجويع حتى الموت.

عائلة نازحة بسبب حملة القصف على حلب في حي الفردوس. تصوير حسام كويفاتية

في 4 آب/اغسطس 2014، ارتكب نظام الأسد مجزرة في مدينة دوما راح ضحيتها ما لا يقل عن 15 شهيداً، بينهم ثلاثة أطفال من عائلة رجب، أيتام استشهد أبوهم قبلهم. في تلك المجزرة  أصيب ابن أخي محمد، وكانت إصابته بليغة. أسفرت الغارة أيضا عن تدمير البيت الذي كانت تسكنه عائلة أخي، فاضطروا إلى النزوح مجدداً، من مدينة دوما إلى الغوطة الشرقية، إلى مزارع بعيدة عن مدينة المآسي والأحزان. بانتظار أن يتعافى محمد من جراحه، وأن يخرج من الأزمة النفسية التي تعرض لها. حيث أنه كان يخاف من أي صوت، و يصرخ في الليل، ويعاني من قلة النوم، بسبب تلك الحادثة الأليمة التي عاشها.

كنت أذهب إلى زيارتهم كلما أتيحت لي الفرصة، وذلك بسبب غياب وسائل المواصلات في الغوطة وبالتالي غلاء أسعار المحروقات. وفي كل زيارة كنت أحاول أنا وزوجة أخي أن نقنع محمد بضرورة عودتهم إلى المدينة، ليعود إلى مدرسته ويتابع حياته. ولكنه كان يرفض، حتى أنني أخبرته أن هذا القرار يؤثر على عائلته كلها، فهم يرغبون بالعودة إلى المدينة، خاصة أنهم أصبحوا شبه معزولين في تلك المزرعة البعيدة عن الناس. ولكن باءت محاولاتنا بالفشل.

ذهبت مع أمه إلى الطبيب النفسي الوحيد الموجود في الغوطة. أخبرنا أن حالة محمد هي مسألة طبيعية بعد الذي مرّ به، وبعد ظروف إصابته. خاصة أنه لم يتعافَ بعد، ومازال يستخدم العكاز ليتمكن من المشي. وطلب منا أن نقنعه بأن يأتي لزيارته في العيادة. وبعد محاولات عديدة مع محمد، اقتنع بأن يأتي فقط لزيارة الطبيب ليساعده في التخلص من الكوابيس الليلية وليتمكن من النوم.

حدثه الطبيب وحاول تهدئته وإقناعه بمتابعة حياته. وصف له بعض الأدوية المهدئة، ومنحه إياها لأنه يملك بعضها، ولا يوجد منها في صيدليات المدينة، وطلب منه أن يعود إلى زيارته في الأسبوع التالي.

بدأت حالة محمد بالتحسن، وهذا ما أدخل السرور إلى قلب زوجة أخي ورفع العبء عن أخيه الكبير، الذي كان يسعى جاهداً لتأمين لقمة العيش لأهله في هذه الظروف الصعبة. وأخته التي كانت تعاني في ظل غياب زوجها وتحملها لمسؤولية تربية طفليها لوحدها. وهكذا تابع محمد علاجه، وعندما كانت تشتد الحملة الأمنية على المدينة كانت زوجة أخي تمتنع عن زيارة دوما خوفاً على محمد من أي انتكاسة.

وفي رمضان هذا العام تحسن وضع محمد، و قام بعملية نزع الأسياخ الحديدية التي وضعت في قدمه المصابة. بدأ بتجاوز أزمته النفسية، وبدأت أمه تحدثه عن العودة للمدينة فوافق. وبدأت العائلة تبحث عن بيت لتستقر فيه.  زوجة أخي أرادت أن تعود لبيتها، وأن تعيد ترميمه علّ وجود محمد في بيت أبيه يشعره بالأمان، و هذا ما شجعها عليه الطبيب. فقامت العائلة بمساعدتهم في تصليح البيت ليعود قابلاً للسكن. وأعادت  تجهيزه في شهر رمضان لتحتفل بالعيد فيه. وكم كانت فرحتنا كبيرة عندما عادت عائلة أخي إلى المنزل، و احتفالاً بعودتهم قررنا أن نتناول طعام الإفطار في أول أيام العيد معهم.  والحمد لله كانت فرحتنا كبيرة بعودتهم.

في ظهيرة يوم 29 تموز/يوليو 2015،  كان محمد في المنزله يستعد للخروج، وإذ بطائرة حربية تغير ملقية صاروخين متتاليين، تبعتها عدة غارات على المدينة. دمّرت الغارات بيت أخي، تم إسعاف أفراد العائلة جميعاً وتم انتشال محمد من تحت الركام. لم يُصب أحد من العائلة، وكانت الأضرار مادية. استشهد في ذاك النهار 13 شخصاً، أما محمد فدخل مجدداً في حالة اكتئاب نفسي، وعاد إلى المزرعة. وهو الآن يبحث عن طريقة يهرب بها إلى أي دولة غير سوريا، هرباً من آلة القتل العبثية التي لا تتوقف.

فمن يوقف آلة القتل وينقذ ما تبقى من سوريا!

 

عبيدة الدومية (51 عاماً)، تعمل في الحياكة والتطريز، أم لأربعة أولاد في المرحلة الجامعية. أم لشاب معتقل منذ أكثر من سنتين وشابة اعتقلت وتم إطلاق سراحها. قُتِل أخوها وعدد من أبناء إخوتها.