بتروا أطراف الوطن وقدم زوجي

انتهينا من تناول طعام الغداء وكانت الساعة قد قاربت الثالثة بعد الظهر. ذهب معاذ وبراء إلى منزل خالتهما ليلعبا مع أطفالها. بقيت مع ابنتي وطفليّ الصغيرين وزوجي في المنزل بينما كان بقية أولادي في السوق يعملون.

شربت القهوة مع زوجي وتحادثنا عن تحضيرات حفلة خطوبة ابنتنا. قاطعنا  طرق على  باب المنزل. كان جارنا الذي طلب من زوجي مساعدته على تمديد شريط الكهرباء. عاد دخل زوجي ليتابع حديثه معي بعد أن استمهل الجار لنصف ساعة.  كانت الفرحة تغمرنا. ها هي ابنتنا تصبح عروساً، ونريد أن نقدم لها حفلاً يليق بها.

بعد قليل خرج زوجي لمساعدة جارنا. لا أعرف لماذا انتابني شعور سيء. لحقت به وطلبت منه أن يعود. ولكنه أصرّ على المغادرة. خرج ولم تكن إلا دقائق فقط سمعت صوت انفجار صاروخ بشكل مدوي. تحطمت شبابيك المنزل، وتكسر ما بقي من زجاج. صرخت من شدة الصدمة، وبدأت أنادي على أولادي وزوجي. صرخت ابنتي وتركت غرفة المطبخ وركضت نحوي وهي مغطاة بالأتربة. عبد الرحمن وغزل، صغيريّ كان قد وقع عليهما باب الغرفة. أخرجتهما بسرعة من مكانهما وضممتهما إلى صدري. كنت أبكي و أحمد الله على سلامتهما، وأدعو على بشار الأسد وزمرته. تذكرت زوجي الذي خرج فلبست معطفي وحجابي. ركضت إلى الشارع أصرخ وأنادي زوجي لأجد أن سيارة الإسعاف وصلت قبلي لتسعف الجرحى. الجيران كلهم كانوا في الشارع يصرخون و ينادون بأسماء أقاربهم. سألتهم عن زوجي، وكانت صدمتي كبيرة عندما علمت أنه أصيب في الغارة. نقلوه بسرعة إلى الإسعاف. لم أستطع اللحاق به. عدت بسرعة إلى ابنتي و أخبرتها أن أبيها قد أصيب. قلت لها بأني سأذهب إلى نقطة الإسعاف، على أن تذهب هي و إخوتها الصغار إلى منزل خالها، لتطمئن على بقية أخوتها وتبقى هناك، وترسل لي أخي محمد لنرى مدى إصابة زوجي .

أمرأة نازحة من كوباني الى الشيخ مقصود تطبخ على الحطب. تصوير براء الحلبي

وبسرعة ركضت إلى نقطة الإسعاف. هناك وقفت أمام حارس النقطة الذي أخبرني أن زوجي تم نقله إلى غرفة العمليات، وأن إصابته بالقدم. هناك شاهدت جارتنا أم مهند وعلمت أن ابنها استشهد في الغارة وأنهم لم يجدوا إلا بعض أشلائه. وجدت العديد من الناس الذين أعرفهم وغابت عني أسماؤهم ولم أعد أدرك شيئاً.

ذهبت إلى نقطة العمليات، فأخبرتني الممرضة أن زوجي قد بترت قدمه بسبب شظية. وهناك شظايا بسيطة دخلت في جسده وبأنه سينقل إلى نقطة العناية المشددة بعد خروجه من العمليات. بدأت أبكي وأبكي، وأمسح دموعي وأتخيل زوجي بدون قدمه. أفكر في ردة فعله بعد إصابته. ورحت أصبّر نفسي وأحمد الله أن قدمه فقط التي فقدناها وليس هو.

بعد نصف ساعة جاء ابني الكبير مسرعاً إلي. وجدني أبكي سألني عن إصابة أبيه، ولكني لم أستطع أن أتكلم، وجدت نفسي أنتحب.  فسأل الممرضة التي أجابته، ودعت له بالصبر على هذه المصيبة.

أخرجوا زوجي بعد وقت، وهو مازال فاقداً للوعي. نقلوه إلى العناية المشددة، جلست بجانبه أراقبه وأتأمل قدمه المبتورة وأفكر في طريقة أصبّره بها على مصابه. ولكن أي الكلمات تلك التي يمكن أن تخفف من وطأة ذاك الألم.

كان زوجي ما يزال في عقده الرابع من العمر. لديه مسؤوليات كبيرة وعائلة تحتاج إليه. وهو لديه من عزة النفس ما يمنعه عن الوقوف على أبواب الجمعيات الإغاثية. لا أعرف ماذا أفعل. لدي سبعة أولاد وزوج مصاب وحرب لا تتوقف وحصار لا يسمح لنا بمغادرة مدينتنا.

مضت عدة ساعات وانتشر خبر إصابة زوجي في العائلة. وبدأت أخوات زوجي بالوصول إلى نقطة العناية المشددة بعد ان هدأ القصف بشكل نسبي. حاولن التخفيف عني ولكني فقدت قدرتي على ذلك. فمصابي جلل وأمي بعيدة عني.

استيقظ زوجي من الغيبوبة، لينظر إلينا من حوله ونحن نهنئه بعودته إلينا ونبتسم بوجهه. ولكنه بدأ يتحسس جسده ليعرف مدى إصابته، وعندما وصل إلى قدمه صرخ وقال: “ماذا حدث أين قدمي؟ ما إصابتي؟ أخبروني؟” لم أتجرّأ على الكلام فكانت اخته هي من قالت له. وحاولت التخفيف عنه ولكنه طلب من الجميع المغادرة وصمت. رأيت في عينيه دموعاً ما عهدتها قبل هذا اليوم. ولكن لا أستطيع أن أقدم له شيئاً، إلا أن أقف بجانبه لنتجاوز محنتنا هذه. سمعت الممرضين يتحدثون عن عدد الشهداء وقالوا بأن هناك 27 شخصاً ماتوا مباشرة بعد غارة الطيارة، وهناك من الجرحى لديهم إصابات خطيرة ومن المتوقع استشهادهم. سألت عن الأسماء فكانوا أغلبهم من أهل حارتنا المنكوبة.

في الصباح عدت إلى المنزل لأجلب بعض الثياب لزوجي. رأيت حارتنا التي غدت أغلب منازلها مدمرة او متضررة بالقصف، ورائحة الدماء مازالت تفوح منها. وهناك عمال النظافة يقومون بإزالة الأنقاض. وصلت إلى منزلي الذي أصبح مفتوحاً على الشارع بعد أن تهدمت جدرانه.

في 27 تموز/يوليو 2015 رحل من حارتنا 27 شخصاً وأصيب ما يزيد على 50 آخرين، بسبب حرب لا نعرف جدواها.

 

غادة الخالد (39 عاماً) تعيش في دوما المحاصرة، ربة منزل وأم لسبعة أطفال قتل أحدهم وهو يقاتل ضد داعش وكان مراهقا. قدمت العديد من التضحيات في الثورة السورية ولكنها بسبب خساراتها المتكررة فقدت إيمانها بالثورة وببلدها. كانت تعمل بالحياكة المنزلية والآن هي بلا عمل.

بإمكانكم قراءة هذا المقال باللغة الإنكليزية على الرابط التالي