نعم أنا نازحة… هل هوَ مُعيب؟!

مشاركة النساء في مظاهرة تطالب فصائل الجيش السوري بالتوحد. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود

مشاركة النساء في مظاهرة تطالب فصائل الجيش السوري بالتوحد. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود

"عرفتْ من لهجتي أنّي لستُ من القرية... فوجّهتْ لي نظرةَ استحقار لن أنساها ما حييت، وقالت: "بالإضافة إلى أنكِ نازحة، أنتِ قادِمة كي تقاسميننا خبزنا؟""

نسرين ظافر

عندما بدأت ثورتنا في سوريا ضد الظلم، تفاءَلنا بها خيراً. كنت أنا وزوجي من أوائل المشاركين في التظاهرات في بلدتنا قلعة المضيق في منطقة الغاب في ريف حماة.

شاركتُ في مظاهرات نسائية عديدة، أربع مظاهرات تحديداً، وهو رقم جيد. كنّا إمّا نسير خلف مسيرات الرجال، أو نخرجُ في مسيرات نسائية لوحدنا. كما أنَّ زوجي لم يترك أي مظاهرة تحدث في البلدة إلا وخرجُ فيها… كان يهتف ويغنّي الأغنيات الثورية ويحملهُ المتظاهرون على الأكتاف.

كنتُ فخورة بما نفعل. ..

في ليلةٍ باردة من آواخر العام ٢٠١١، كان الباب يُطرَق بقوة. فتحَ زوجي الباب خائفاً، وإذ بأخيه جاء ليطلب منا أن نغادر البلدة فوراً، وذلك لأنَّ هناك أقاويل تنتشر عن أنَّ الجيش المتمركز قريباً من القرية سيقوم بمداهمتها لتنفيذ حملة اعتقالات فيها!

وطبعاً أنا وزوجي من أوائل المطلوبين للدولة، فخروجنا في المظاهرات السلمية لم يكن سرّاً. خرجنا في تلك الليلة هاربينَ من البلدة، حاملينَ أولادنا وبعضاً من ألبستنا فقط، فالوقت ليس لصالحنا… ولم نكن نعلم إلى أين نذهب!

تذكَّرَ زوجي أنَّ له صديقاً في بلدة معرة حرمة في ريف إدلب الجنوبي، فاتجهنا إلى تلك القرية… وصلنا إلى منزل الرجل بعد منتصف الليل. طرقنا الباب ودخلنا، فقصصنا له ولأسرته حكايتنا، وبتنا ليلتنا عندهم.

في اليوم التالي، بدأ زوجي بالبحث عن مكانٍ يأوينا، فنحنُ عائلة مكوّنة من زوجي وأنا ومعنا ثلاثة أطفال… وبالتالي، كانت قد بدأت رحلة النزوح!

بعد جهدٍ جهيد، عثرنا على منزلٍ لم يكتمل بناؤه بعد وذلك بمساعدة الرجل الذي بتنا عندهُ. فلم نكن نملك ثمن دفع إيجارِ منزلٍ، فربما نستطيع السكن في ذلك المكان دون دفع الإيجار لأنهُ منزل غير مُكتمل. حاولنا تنظيف شقتنا الجديدة قدَر الإمكان، وهي بلا نوافذ وأبواب ومطبخ! وبعدَ يومين، إنتقلنا إليها…

منزلٌ لا يشبهُ المنازل! كنا في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر تقريباً، والبرد لا يرحم.  ذهبَ زوجي إلى المجلس المحلي للقرية طلباً للمساعدة المستعجلة… وبالفعل، قدَّموا لنا بعض الأشياء كالبطانيات الخفيفة وألواح رقيقة من الخشب لوضعها على النوافذ والأبواب… وبعض المواد التموينية كالأرز والبرغل. بالألواح الخشبية، سددنا النوافذ والأبواب… وفوقَ تراب الأرض، مددنا البطّانيات، والتففنا بما تبقّى منها.

جاء الرجل الذي كنا عندهُ، لزيارتنا وكانت زوجته برفقته… أتيا كي يطمئنا على حالنا. وفور دخولهما، صرتُ أبكي… نظراً لوضعنا الذي بتنا فيه. عادا إلى القرية، ثمَّ جاءانا ثانيةً حاملين في سيارتهما سجادة قديمة وبعض الإسفنج والوسائد ومدفأة حطب وبعض الآواني… شكرنا الرجل والزوجة على مساعدتهُما، فهم قدّما لنا كل ما يستطيعان.

بعدها اتصل زوجي بأخيه علّهُ يتمكّن من إحضار شيءٍ من أغراض منزلنا… لتكون الصاعقة بأنَّ الجيش قد دخلَ إلى القرية وأحرق منزلنا بالكامل!

وبعد فترة، نقلنا ولدَينا الكبيريَن إلى المدرسة القريبة، فرسمياً أصبحنا نازحين. ثمَّ بدأ زوجي بالبحث عن عملٍ في هذه القرية الصغيرة.

بعد مرور الشهر تقريباً، عادَ الرجل الذي استقبلنا فور وصولنا القرية، ليقول لنا بأنَّ صاحب المنزل الذي نسكن فيه يريد إيجاراً مقابل سكننا وإمّا أن نخلي المنزل فوراً! ذهبَ زوجي إلى صاحب المنزل، وبعد عناءٍ وافق الرجل على بقائنا مقابل دفع مبلغ زهيد، على أن يزيد فورَ حصول زوجي على عملٍ يساعده في ذلك.

اضطررتُ لبيع خاتمي الوحيد كي ندفع إيجار الشهر الأول ونحاول تدبير أمورنا، علَّ زوجي يحظى بعملِ ما.

وهكذا مضينا…

ذات يوم عاد ابني من المدرسة وهو يبكي ويقول أنه لن يذهب إلى المدرسة مجدداً! وبعد أن سألناه عن سبب بكائه، قال أنهُ تشاجر مع أحد زملائه وبأنّ رفاقه قد ضربوه نصرةً لزميلهم، فهو من القرية وله أقارب، أمّا ولدي فقد قالوا له: “أنتَ نازح”!

حاولنا تهدئة الطفل قليلاً، وراضيناه بكلماتٍ رغم حزننا، وحاولنا ألا نُظهر لهُ ذلك… وبعد هذه الحادثة بيومبن فقط، ذهبتُ إلى أحد المنازل القريبة الذي اعتدنا أن نشتري منهُ الخبز. كانت كميته محدودة، وكان الناس يتشاجرون في ما بينهم على الخبز!

وقفتُ أنتظرُ دوري، كي أخُذَ الخبز وأمضي… وإذ بامرأة كانت تصرخ وتقولُ أنها تريدُ كميةً أكبر لأنّ عائلتها كبيرة… نظرتْ إليَّ تلك المرأة وأنا أُحدِّث البائعة، فـعرفتْ من لهجتي أنّي لستُ من القرية… فوجّهتْ لي نظرةَ استحقار لن أنساها ما حييت، وقالت: “بالإضافة إلى أنكِ نازحة، أنتِ قادِمة كي تقاسميننا خبزنا؟” ومضتْ دون أن تلتفت…

قتلتني تلك الكلمات التي رمتها ومشت… ودمّرتْ ما بقي من أحاسيسي .نعم أنا نازحة، أهوَ معيب أن أكون نازحة؟!

وهل كوني نازحة أنا وعائلتي، يعني لكم أننا أقلَّ منكم درجة؟!

أنا وزوجي وأطفالي نازحون، لأننا لم نرضَ بالذل والقهر لكل السوريين… نازحون لأننا خرجنا بالمظاهرات السلميّة نطالب بالحرية والكرامة لكلِّ سوريّ وسوريّة. نازحون ومشرَّدون، فقراء لا نملك سوى كرامتنا… نازحون لأننا ثرنا على الظلم والعدوان… نازحون وغرباء في وطننا…

نسرين ظافر (ه٣ عاماً)، من ريف حماة. متزوِّجة منذ ُ١٩ عاماً، أُم لخمسة أولاد. أجبرتها ظروف الحرب على النزوح إلى بلدة معرة حرمة في ريف إدلب.