نسير ولا نلتفت خلفنا!
في التاسع من آذار/مارس العام 2014، في تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، توقيت مغادرتي المستشفى، حيثُ عملي في مناطق النظام في حلب، متجهةً إلى مناطق سيطرة المعارضة في الريف الشرقي حيث أسكن.
كان خطر الموت يتربّص بنا من اللحظة التي نسلك فيها معبر بستان القصر، الذي يفصل حلب الغربية وهي تحت سيطرة النظام، عن حلب الشرقية الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وصار يُسمّى “معبر القنص”، لكثرة الضحايا المدنيين الذين يتم قنصهم من قنّاصي النظام في رحلة عبورهم اليومية بين شقّي مدينتهم، للعمل أو للعلاج وأحيانا كثيرة لزيارة الأهل.
“تخيلي أن يختارني القنّاص من بين الكل، وأن أموت قبل أن أرى إبني… مضت سنة دون أن أراه”، هذا ما قالته لي في ذالك اليوم إحدى النساء بجواري!
نعم هكذا بكل بساطة، في كل خطوة نعبرها في الشارع العريض المكشوف على أربعة قنّاصين من أربع جهات، قد يصوِّب أحدهم نار بندقيته بإتجاهك بدم بارد. وستكون سيئ الحظ، إن كان القنّاص المتمركز في حي الزراعة من نصيبك، فإصابته قاتلة ولا يكتفي بضحية واحدة أو اثنتين أو ثلاثة! لا نعلم بالضبط لما شهيته مفتوحة دائماً على القتل، عكس رفاقه القنّاصين المتمركزين في القصر البلدي أو بعض الأبنية المحيطة، الذين قد يكتفون يومياً بشخص واحد لقنصه!
في ذلك اليوم كان الهدوء نسبياً. زخات من الرصاص فقط لا غير، عبرت فوق رؤوسنا دون أن تُحدث إصابات. ركضنا جميعاً بسرعة لحظة سماع صوت الرصاص، دون أن نلتفت وراءنا.
الجميع يعلم تماماً أن مَن يسقط هنا لن يجد مَن يسعفه، إلّا بعد عودة الهدوء. وفي حالات نادرة يكون المُصاب ما زال على قيد الحياة.
عبورنا للضفة الأخرى لا يعني أن مَن سيعبر بعد دقائق قليلة من بعدنا، سيكون بأمان مثلنا. فلا أحد قادر على التنبؤ باللحظة التي يفتح فيها القنّاص النار على العابرين! لكن مَن يصل إلى برّ الأمان، لا ينظر خلفه، يكمل طريقه الذي لم تنتهِ فيه رحلة الخوف.
بعد عبور المعبر، لن يبتعد الموت كثيراً. نحن الآن في القسم الشرقي من المدينة حيث تمطر سماؤها براميل، لا نعرف أين تسقط ما دام هدير المروحية يُسمَع بالأرجاء!
كان النظام في حينها، قد بدأ بتكثيف القصف بالبراميل في معركة أعلنها لإعادة سيطرته على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في حلب. لكن هذه المعركة تسببت بنزوح عدد كبير من السكان، نتيجة القصف العنيف والعشوائي للمناطق السكنية، وهو ما كنا نخشاه أيضاً في تنقلنا بين شطرَي المدينة!
في حلب الشرقية، ركبتُ الميكرو باص باتجاه الكراج (موقف السيارات) الذي تنطلق منه السيارة إلى الريف الشرقي، حيث أسكن بعد أن نزحت من بيتي في حلب في العام 2013.
كانت المروحية ما زالت تحوم وصوتها يقترب أكثر.
انطلقت السيارة وصوت المروحية لم يبتعد. كان معي في السيارة بعض الموظفين النازحين لأماكن مختلفة بالريف الشرقي، وما زالوا يعملون في مناطق النظام كحالتي تماماً.
سلكتْ السيارة الطريق الوحيد، الذي يمر بشكل إجباري من منطقة الشيخ نجّار. وهي منطقة استراتيجة للنظام، كان يحاول استعادتها في محاولة لمحاصرة المعارضة وقطع خطوط الإمداد عن المقاتلين هناك.
عندما وصلنا لقرية الشيخ نجّار، التي سُميت المنطقة الصناعية لقربها منها، ألقت المروحية أول برميل باتجاهنا! ارتفع صوتنا بالصراخ، وبدأت السيارة تميل يساراً ويميناً بتخبُّط واضح من السائق. فالمروحية ما زالت بالسماء ولا نعلم، هل ستلقي مرة أخرى أم تغادر؟ّ! لم تعطنا الوقت الكافي لطرح أسئلة أكثر. ألقت البرميل الثاني، شعرنا أننا في سباق مع الموت ولكن كنّا أسرع منه بخطوة!
الشاحنة من خلفنا، لم يكن سائقها سعيد الحظ مثلنا، فانقلبت على قارعة الطريق… وهناك سيارة يتصاعد منها الدخان، وتتسرب منها كمية كبيرة من الوقود… وثالثة محترقة تحيطها بركة من الدم، دون أن يحاول أحد منّا الإقتراب، ومعرفة مصير الركّاب!
لم يترك لنا البرميل الثالث مجالاً للتوقف… أهل القرية حيثُ وصلنا، لوَّحوا لنا من بعيد: أسرعوا لا تتوقفوا!
وهذا ما كان…
هدى أبو نبوت (36 عاماً) درست الإعلام في جامعة دمشق، وعملت في المجال الطبي حتى مغادرتها سوريا في ايار/مايو 2015. تقيم في اسطنبول في تركيا وتعمل حالياً في مجال الصحافة.