مسكين يا عمّي!
- نساء يتفقدن مكان استهداف الطيران الحربي لاحد منازل اقربائهم تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"في حرب العام 1973، أُصيب بقدمه اليُسرى، وبعد 43 عاماً بُتِرت قدمه اليمنى"
استيقظتُ صباحَ يوم السبت في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2012، قبل عيد ميلاد أختي بيومين…
كنتُ ككلِّ صباح، أُحضِّرُ وجبة الفطور، ومن ثمَّ أتساعد مع أخواتي في أعمال المنزل. بعد ذلك كنتُ أستعد لمساعدة أمي في غسيل الملابس المتراكمة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وككلِّ صباح، أتفقَّدُ الطائرة!
صعدتُ إلى سطح المنزل، لأرى الطائرة الحربية تحلّق في سماء البلدات القريبة. وقد قامت بتنفيذ غارتها فوراً على قرية دير سنبل، وهي إحدى قرى منطقة جبل الزاوية.
ناديتُ والدَي وإخوتي، كي يشاهدوا معي أثارَ القصف… كان الدخان الكثيف يملأ سماء تلك القرية، وقد بدأ بالتصاعد أكثر فأكثر… وصلوا إلى السطح، وقد صار المشهد جلياً. هكذا بثوانٍ يصبح مشهد إحدى القرى هو الدخان المتصاعد!
بقينا على هذا الحال، أي على إيقاع صوت الغارات، إلى أن أتى وقت الغداء. حيثُ كنا جالسين في الغرفة، فسمعنا صوت طائرة قوي جداً!
ربما ذات الطائرة التي كانت قصفت قرية دير سنبل، أتت لتقصفنا! كانت أمي في المطبخ، وبدأت تصرخ: “أين أنتم؟ لقد أتت الطائرة!” كنا في إحدى غرف دارنا الكبير… فصرخنا جميعاً من شدّة الخوف، إلى أن انتهى الصوت!
أعقب صراخنا أو ربما سبقه صوتُ انفجارٍ كبير، أدّى إلى كسر زجاج نوافذنا… راحت أختي باتجاه أمي! ظننا أنّ مكروهاً قد أصابها! فصوت الزجاج كان قويا من جهتها! لكن الحمدُ لله لم تكن قد أُصيبت أُمي بأيِّ أذى.
صعدنا إلى السطح ثانيةً، وإذ بالغبار يملأ الحي كالبراكين الثائرة. كنا قد اعتقدنا بأنّ الضربة كانت على الجامع القريب من منزلنا.
فجأة، نظرنا إلى السماء، وإذ بالطائرة ما تزال تُحلّق فوقنا! صرخ أبي: “أسرعوا إلى القبو للإختباء”! كان القبو قريبا من منزلنا… فنزلنا إليه.
بعد دقائق من وصولنا إلى القبو، سمعنا صوتَ انفجار آخَر، أعقبهُ بعد دقيقة واحدة، صوت صراخ من منزل عمي!
خرجت أمي من الملجأ لترى إبنة عمي تصرخ وتقول: “لقد أُصيبَ أبي، ها هو بدونِ قدَم!” عادت أمي إلى القبو، وأخبرتنا أنَّ الطائرة استهدفت دكّان عمي الملاصق لمنزله!
خرجنا جميعاً مسرعين لنطمئن على عمي الكبير، الذي نحبهُ كثيراً… صعدنا إلى منزله، ولم نجده… كانوا قد سحبوه من دكانه لإسعافه قبل وصولنا.
عمي كان قد أُصيب في حرب تشرين في العام 1973، وكانت الإصابة في ساقه اليسرى… حيثُ أصبح عاجزاً عن المشي، ولا يستطيع العمل، إلا في دكانٍ صغيرٍ يمتلكه بجوار منزله. ولم يكن عمي معيلاً لعائلته فقط، بل لعائلة إبنه الذي لا يعمل، بعدما انشقّ عن النظام، حيثُ كان في الأمن العسكري.
الشارع مليء بالناس الذين يساعدون المصابين ويقومون بنقلهم إلى المشافي… أمّا نحنُ فبقينا ننتظر خبراً عن عمي، وأنا أُطبطب على بنات عمي الباكيات النادبات!
جاء أحد الأشخاص، ليخبرنا أنّ عمي ما يزال على قيد الحياة، لكنّ حالته خطرة جداً، بعدما تمّ بترِ ساقه اليمنى. سمعتْ جدتي هذا الخبر، فأُغمي عليها… وبعدما رششنا على وجهها الماء، استعادت وعيها، وهي تقول: “خذوني لرؤية إبني”.
جاء أحد الأقارب ليصطحبها معه إلى المستشفى. وبقينا على جانب الطريق ننتظر خبراً عن عمي… هل تجاوزَ الخطر؟
جاءت سيارة تحمل رجلاً مقتولاً. فاعتقدنا أنه عمي! أسرعنا إلى السيارة أنا وبنات عمي، وإذ بالشهيد رجلٌ من البلدة المجاورة نزح إلى بلدتنا، وسكنَ بجوار دكّان عمي! هربَ من بلدته التي تعاني القصف، ليلقى حتفه في بلدتنا. لا يوجد مكان أمن في كل سوريا!
بعد دقائق، صرخَ الناس: “الطائرة في السماء… أخلوا الشارع” أصبحوا جميعاً كالسكارى يركضون… وأنتَ في هذا الموقف، لا تدري ماذا تفعل، هل تتفقد ماذا يوجد تحت البيوت المهدّمة أم تهرب حفاظاً على حياتك؟
لم يكن أمامنا سوى خيار العودة إلى القبو…
بعدَ ساعة، أتى إبنُ عمي يحمل ساق والده المبتورة ليدفنها! كانت الدموع تنهمر من عينيه… عمي أصبح عاجزاً بشكلٍ كامل!
في حرب العام 1973، أُصيب بقدمه اليُسرى، وبعد 43 عاماً بُتِرت قدمه اليمنى!
تموت على مراحل وتُدفَن على مراحل…
إناس محمد (23 عاماً) أم لطفلين. لم تكمل دراستها في جامعة دمشق بسبب الأوضاع الأمنية، وتعمل الآن كمحرِّرة في راديو فريش.