مجزرة المدرسة

أطفال يحضرون دورة صيفية في أحد مدارس مدينة دوما، الدورة تتضمن "مواد تعليم مسرع" للأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة في السنوات الماضية بسبب ظروف الحرب في سوريا. الصورة بتاريخ 16-08-2017.

أطفال يحضرون دورة صيفية في أحد مدارس مدينة دوما، الدورة تتضمن "مواد تعليم مسرع" للأطفال الذين انقطعوا عن الدراسة في السنوات الماضية بسبب ظروف الحرب في سوريا. الصورة بتاريخ 16-08-2017.

"عدت الى المدرسة وفي ذاكرتي صورة مريم المصدومة وصور الاطفال الشهداء الذين قضوا في مدرستنا وهم يرددون : نحن الان طيور في السماء، لم نعد نخاف من شيء، نحن الآن أحرار."

عائشة السلطان

بعد تخرجي في عام 2009 من معهد الإدارة والمحاسبة التابع لجامعة حلب، لم أجد وظيفة أو عملاً في هذا المجال، فقررت كغيري من آلاف الطلبة الخريًجين الاتجاه نحو مجال التدريس الذي أحبه وأتقنه، وبالفعل بدأت بالتدريس بعد حصولي علىالوكالة أو نظام الساعات كما هو متعارف عليه في سوريا .

بدأت بالتعليم مع طلاب المرحلة الأولى. كنت سعيدة جداً مع طلابي الذين بادلوني نفس الشعور. كانت المدرسة بالنسبة لي بيتي الثاني. ولا زلت أذكر بكل فخر مجموعة من الطلاب الذين تركوا بصمتهم على مستوى المحافظة وتفوقوا بجدارة.

في العام 2011 بدأت الثورة. عمد نظام الاستبداد إلى فصل وايقاف مئات المعلمين بحجج واهية وباطلة. لم أستسلم كما زملائي لهذا القرار الجائر، وقررت متابعة رسالة التعليم السامية. وبالفعل بدأت بالتعليم في المجمع التربوي الحر الذي تم استحداثه بعد تحرير مناطقنا في إدلب وريفها، وتحديداً في كفرنبل.

تم تعييني في المدرسة الكائنة في الحي الذي أقطن فيه. كانت ظروف التعليم قاسية جداً بسبب الحرب. كنت في كل يوم أدخل المدرسة أواظب على قراءة المعوذات وآية الكرسي لعلها تقيني قذيفة من هنا أوصاروخا من هناك.

في 9 مارس/آذار 2016، وخلال اعطائي درسا لطلاب الصف الثالث الابتدائي، سمعت وسمع طلابي الاطفال صوت تلك الطائرة التي أصبحت قريبة جداً. كان صوتها مرعباً، قوياً. حاولت أن أخفي مشاعر الخوف أمام الاطفال بابتسامةٍ صفراء وبعض كلمات التطمين. لكن الخوف كان باديا على وجهي، ولم ينطل ذاك الشعور وتلك الحركات المصطنعة على الاطفال.

بدأت الطائرة تحوم في المكان، والجميع أيقن تماما أنها ستقصف. لم أعد أقوى على فعل شيء، وشعرت بان قلبي سيخرج من مكانه. خوفي على الأطفال وعلى نفسي أربكني تماما وبدأت أفكر، ماذا أفعل؟ هل نخرج من الصف وفي ذلك مخاطرة كبيرة، أم نبقى في الصف وفي ذلك أيضا مخاطرة أكبر اذا تم استهداف المدرسة بشكل مباشر.

سادت حالة من الذعر والفوضى والضجيج في المدرسة، وأكثر شيء ترك غصةً وحرقة في قلبي صوت بكاء الاطفال وصراخهم، وفي تلك اللحظات المرعبة لم أحس إلا بصوت لا يشبهه إلا صوت صاعقة نزلت من السماء، وزلزلةً عظيمة ملأت المكان.

لقد وقع ما كانت حواسي تخبرني بحدوثه. نعم ، لقد تم استهداف المدرسة بشكل مباشر، لا زلت أتذكر تفاصيل لا يمكنني نسيانها ما أذكر الطفلة مريم التي فقدت أباها وأمها في غارة سابقة. كان وجهها شاحباً ولم تقو على الصراخ أو البكاء. فقط أمسكت بذراعي ولم تفلتني والصدمة بادية على وجهها الشاحب.

باقي الأطفال، البعض منهم أغمي عليه، والبعض الآخر أصيب بجروح بالغة، وما إن انقشع غبار تلك الغارة حتى بان لي بوضوح أنً الصاروخ قد اخترق غرفة المدرسين وبجانبها غرفة الادارة. صرخت ” ياالله ياالله لطفك ” . توجهت بسرعة إلى خارج الصف ومعي الطفلة اليتيمة مريم.

كانت جموع الأطفال قد ملأت ساحة المدرسة، هذا يبكي، وهذا ينزف دماً، وهذا يصرخ أبي، وذاك يصرخ أمي. نسيت الخوف، فالمشهد أكبر وأعظم من أن تخاف على نفسك. ركضت مسرعة إلى خارج المدرسة وأنا أصرخ بصوت عالٍ “بسرعة يا أطفال بسرعة”. ولم نكن قد ابتعدنا كثيراً عن المدرسة حتى عاودت تلك الطائرة وألقت بصاروخها الثاني على المدرسة مباشرة. صرخت بأعلى صوتي “انبطحوا على الأرض جميعا”. ولكن الأطفال لم يسمعوا صوتي، فصوت هدير الطائرة أخفى كل تحذير.

لم أستطع النهوض إلا بعد مضي أكثر من ربع ساعة، وبمساعدة بعض الجيران القريبين من المدرسة. كان يوما عصيباً لن أنساه أبداً. بعد عودتي إلى البيت سمعت صوت الشيخ في البلدة وهو يعلن نبأ استشهاد ثلاثة أطفال من البلدة. بكيت لساعات طويلة، ولكن البكاء لم يكن ليشفي غليلي أو يعينني على المأساة.

بعد تلك الحادثة المروعة أصدرت مديرية التربية في إدلب قرار يقضي بإيقاف الدوام لأسبوع كامل قابل للتمديد، خاصة بعد أن تكرر المشهد نفسه في مناطق عدة في ريف ادلب. وبعد مضي أكثر من نصف شهر تقريبا قررت أن أعود الى التدريس مهما كانت النتيجة والمصير، لأنني كنت مؤمنة بشكل لا لبس فيه، بأنّي أموت ألف مرة ولا أترك الأطفال عرضةً لمخالب الجهل والضياع والتشرد، فرسالة التعليم أسمى رسالة .

عدت الى المدرسة وفي ذاكرتي صرخات وبكاء الاطفال الذين كانت جريمتهم أنهم أحبُوا المدرسة وأرادوا التعلُم. عدت الى المدرسة وفي ذاكرتي صورة مريم المصدومة وصور الاطفال الشهداء الذين قضوا في مدرستنا وهم يرددون : نحن الان طيور في السماء، لم نعد نخاف من شيء، نحن الآن أحرار.

عائشة السلطان (27 عاماً) من ريف ادلب الجنوبي. خريجة معهد إدارة أعمال من جامعة حلب متزوجة وأم لطفلة صغيرة .