ما أجمل أن يكون خبر الموت كذبة…
حلب : حي الميسر اخراج سيدة وطفلها من بين الغبار الكثيف الذي غطا المكان نتيجة تعرضه لبرميل متفجر تصوير: صلاح الأشقر
"أقرأ أوَّلاً بأوَّل، أسماء الشهداء التي تُنشر على الفيسبوك! كان من بينها إسمَ أخيكِ!"
يستهدف النظام الحاكم في دمشق، قريتي التمانعة، بشتّى أنواع الأسلحة المحرّمة، ويدبّ الذعر في قلوب الناس الآمنين فيها.
وفي يوم، أغارت الطائرات الحربية على القرية بمظلات، تحملُ صواريخ شديدة الإنفجار، واستهدفت المنازل.
فكعادته، يسعى النظام لقتل أكبر عدد من المدنيين الصامدين.
كنت أنا وعائلتي نجلس على مائدة الطعام، وإذ بصوت ضخم جداً، يهزُّ منطقتنا. هرعنا من مكاننا، وتركنا الطعام في الأرض. ثمّ خرجنا باتجاه الملجأ القريب… لكن ما إن خرجنا من المنزل، إذ بصاروخ آخَر يسقط على منزلٍ قريب، يبعد عنا بضعة أمتار!
لم نستطع إكمال طريقنا، عُدنا أدراجنا… بقينا في المنزل نسمع دوي صفّارات الإنذار تعلو، محذِّرةً من غدر الطائرات وضربات أخرى… بعد لحظات، سمعنا دوي انفجار ثالث ورابع وخامس… جميعها صواريخ تستهدف قريتنا!
أين تسقط؟ على أماكن تجمعات الناس… هنا وهناك!
صوت سيارات الإسعاف لا يهدأ، والطائرات فوقُنا تقصفنا! يا الله ما أصعب ذلك اليوم، مرت علينا ساعة كأنها سنين! فأصوات الصواريخ لا تُطاق من شدّتها، وكنا كلما سمعنا صوتَ صاروخ، حسبنا أنهُ سيسقط علينا!
الخوف يملأ المكان، والأطفال الصغار يبكون… أسمع صراخهم من النوافذ! وفي العادة يضع الأطفال أيديهم على آذانهم، علّهم يقطعون صوت الطائرات عن مسامعهم…
بعد ساعة، هدأ الذعر، وخرج الناس من كل حدبٍ وصوب، باتجاه أماكن الإستهداف، لمساعدة الدفاع المدني في رفع الأنقاض عن رؤوس المدنيين! كانت الأخبار تأتينا أنّ عدد الشهداء يزداد، وأن المصابين الذين نجوا حالتهم خطرة جداً!
أغلقَ عدّاد الموت في ذلك اليوم على خمسة عشر شهيداً… وعدد الجرحى وصل إلى أكثر من أربعين.
ما حصل معي بعد دقائق من القصف كان شديداً علَي ولا أنساه! أخي متزوج ومنزله في القرية، كنا قد تأكدنا أنّ القصف لم يستهدف منزله، ونعرف أنهُ لا يخرج من المنزل!
أرعبتني صديقتي حين اتصلت بي، متحدثةً بلهجة مليئة بالخوف! قالت لي: “سمعتُ أن مجزرة قد حصلت قريبة من مسكنكم! أنتم بخير؟”
طمأنتها أننا بخير.
لكنّ صوتها كان يرتجف!
حينها شعرتُ بخطبٍ ما!
قلت لها: “ما بكِ؟ قولي لي”
سكتت للحظات…
كانت هذه اللحظات كافية لأن تراودني الظنون السوداء!
كُثُر هم أحبتنا في القرية، “هل من أحد حصل لهُ أي شيء؟!”
ثمّ قالت لي: “أقرأ أوَّلاً بأوَّل، أسماء الشهداء التي تُنشر على الفيسبوك! كان من بينها إسمَ أخيكِ!”
هنا قطعتْ نَفَسي!
ثمّ تداركتْ: “ربما يوجد لغط! هل اطمأنيتم عليه؟! أسفة لإخبارك، لكن لا بدَّ من إعلامكم كي تتأكدوا من ذلك، عسى أن يكون هناك خطأ في الأسماء”!
لا أعرف ماذا حلّ بي! كل ما أتذكره أني صرتُ أرتجف ولا أستطيع التحدّث! ثمّ استجمعتُ قواي وذهبتُ إلى والدي… أخبرته بما قالته صديقتي! لم يجد رصيداً في هاتفه، ولا حتّى في هاتفي! كيف نطمئن على أخي؟!
أسرعَ أبي باتجاه منزل أخي في القرية… لكنهُ نبّهني ألا أُخبر بقية العائلة بشيء، وخاصة أُمي! وذلك كي نتأكد من الخبر! بقيتُ في المنزل مذهولة! لا أعرف ماذا أفعل!
وأمي وإخوتي يسألونني: “ما بكِ، لماذا وجهكِ أصفر؟!”
أجبتهم: “لا شيء، ربما لأنني خفت من قصف الطائرات”!
حينها كانت دقائق الإنتظار تنهش عقلي، وكأنني جالسة على بركان من هلع! فأنا وأبي كنا لا ننتظر إلاّ الأسوأ! فصديقتي نقلت لي الخبر!
بعدَ قليل، اتصل بي والدي من هاتفِ أخي!
قالِ لي: “أخوكِ بخير، تحدّثي إليه”.
لم أُصدّق أني سمعتُ صوته! أخي رفيق طفولتي.. الحمد لله، أنهُ وعائلتهُ، كانوا في الملجأ حين وقعت الغارات! سجدتُ لله شاكرةً، على سلامتهم… وفي المنزل، بدأ الجميع يعاتبني، أني لم أخبرهم بالأمر!
لكنّ الأفضل أني لم أخبرهم، كان ذلك سيرعبهم، وخاصة أُمي، فصحتُها لا تحتمل! لأنهُ مؤلم وحقير شعور فقدان أشخاص كانوا كلَّ عمرك…
اتصلت بي صديقتي ثانيةً لتعتذر وتهنئني بسلامة أخي! فالشهيد الذي قرأت إسمه، يحمل ذات إسم أخي ووالدي…
وما أجمل أنّ الخبر كان خاطئاً… ليتَ كل مَن قالوا أنهم ماتوا، يكون خبر موتهم كذبة، بمن فيهم الشاب الذي يحمل ذاتَ إسمَ أخي…
رولة عبد الكريم (27 عاماً) من ريف إدلب. تحمل اجازة في علم الإجتماع.