ليلة الفرح الحزينة

"عندها تذكرت أهلي، أمي وأبي وتوأم روحي أختي الكبرى. تذكرت قريتي، لم استطع أن أتقبل فكرة أن أكون في ليلة زفافي وحيدة مع نساء لا أعرفهن. "

حلم كل فتاة أن تصبح عروساً، أما بالنسبة لي فالأمر مختلف، لأن فكرة الزواج لم تكن ببالي ولم أتخيلها للحظة واحدة.

انقضى من عمري 19 سنة. مرًت علي كنسمة صيف عابرة باستثناء آخر اربع سنوات قضيتها زمن الحرب في سوريا، فقد مرًت علي كقرن من الزمان.

إنه عام 2016 وتحديداً بلدتي معرة حرمة في ريف إدلب، كنت أتابع دراستي في جامعة إدلب، لم أكن أعرف ما يخبّئ لي القدر من مفاجآت .

بدأ الأمر حين كنت في إدلب بدأ هاتفي الخلوي يرن. كانت أختي الكبرى بعد السلام أخبرتني بضرورة أن أحضر إلى القرية بأسرع وقت ممكن. اضطرب قلبي وزاد خفقانه. أحسست ان مصيبة قد وقعت، ولكن ضحكات اختي وتطميناتها خففت علي المسألة.

تركت الجامعة وتوجهت إلى بلدتي التي وصلتها مع اذان العصر تقريباً. وفي المساء وبعد أن نلت قسطا من الراحة قالت لي أمي وبحضور أختي الكبرى: “لقد خطبك اليوم شاب من القرية ونحن نريد رأيك في الموضوع”. ارتبكت كثيرا لأني لم افكر بالزواج مطلقاً.

ثم عادت أمي وقالت: “يا ابنتي أصبح عمرك 19 عاماً وأنت تعرفين عادات الريف، ربما تصبحين عانساً”. أطرقت طويلاً بدون أي كلمة. وتابعت أمي: “هذا الشاب من عائلة محترمة وهو ذو سمعة طيبة وأخلاقه حميدة وهو يعمل ويقيم في تركيا، والزواج حصناً وستراً لك” .

ثم بدأت أختي الكبرى والتي هي توأم روحي بتشجيعي وتسهيل الأمر علي. وبالفعل وبعد أيام عديدة من التفكير قررت الموافقة.
كان “الواتس اب” الوسيلة الوحيدة للتواصل بيني وبين خطيبي طيلة ثلاثة أشهر. واتفقنا على أن يكون الزواج في بداية شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2016. خطّطنا سوية لكل تفاصيل الزفاف، وكما لو كنا في وضع عادي ليس فيه حرب.

وقبل موعد العرس بثلاثة أيام أخبرني خطيبي أن قدومه إلى سوريا بات شبه مستحيل، نظراً للأوضاع على الحدود التركية والمشاكل الأمنية. وطلب مني أن أذهب إلى مدينة حماه لأستصدر جواز سفر، وأن الزواج سيكون في تركيا وليس في سوريا.

أُصبت بالذهول والصدمة مما سمعت. وقلت في نفسي: أي نهاية ستُكتب لي. ذهبت إلى مدينة حماه برفقة والدة خطيبي وأمي. لم أتعذب في الحصول على جواز السفر لأني دفعت حوالي 200 دولار أميركي كضريبة لا مفرً منها لكل من يريد جواز سفر بسرعة.

أبلغني خطيبي أنه ينبغي علي الاستعداد للسفر إلى تركيا. وأخبرني ايضا أن العبور سيكون سهلاً بعدما دفع لأحد المهربين مبلغ ألف دولار أميركي. ولم يعد من نفع لجواز السفر بعد أن أغلقت الحدود نهائياً من قبل تركيا. أصبح العبور عن طريق المهربين.

العبور خلسة عبر الحدود خطوة خطرة للغاية، خصوصاً أن المهربين من المحتالين، ولكن لا مناص من المخاطرة.

وفي 12 ديسمبر/كانون الأول 2016، فارقت أهلي وقريتي ووطني. عند الساعة 5 صباحاً كان أبي يتظاهر بالنوم لرقة قلبه، ذهبت إلى فراشه وبدأت بتقبيله وتقبيل يديه وبدأت بالبكاء، ضمني إليه وقال: “فلترافقك السلامة والتوفيق”.

وذهبت برفقة أمي وخالة خطيبي أم محمد، تقلّنا سيارة أجرة إلى أطمة عند الحدود السورية التركية. وصلنا إلى هناك عند الساعة 7 تقريباً. كان من المفترض أن يكون هناك شخصان بانتظارنا لإيصالنا إلى داخل تركيا.

حان وقت الفراق والوداع الثاني لأمي. ضممتها إلى صدري بشدة وضمتني اليها بشدة أيضا وبدأت بالبكاء. ولكن بكاء أمي أصبح عالياً، كان أشبه بتوديع أحياء لميت. هنا تدخًلت الخالة أم محمد وقالت: “لا يجوز ذلك يا ابنتي”.

أم محمد أخذتني من أحضان أمي وقالت: “الرجلان ينتظرانك عند الحدود، هيا بسرعة لقد تأخرنا”. عبرت الحدود مع الخالة أم محمد، ونظرت نظرة الوداع الأخيرة إلى أمي. طلب منا الرجلان الهوية الشخصية، وفتشا حقائبنا ومن ثم ركبنا السيارة معهما. أوصلانا إلى مدينة الريحانية حيث كان خطيبي بانتظاري.

اصطحبني الى منزل خالته وأخبرني أنني سأقيم معها لثلاثة أيام فقط ريثما انتهي من شراء بعض حاجيات الزفاف. وفي 16 ديسمبر/كانون الأول 2016، استأجر خطيبي صالة للأفراح في مدينة أنطاكية. كان مساء ذلك اليوم أقرب للحزن منه إلى الفرح.

أول ما لفت انتباهي هو أن الحضور في صالة النساء لم يتجاوز العشرة نساء لم أعرف منهن سوى خالة خطيبي أم محمد. عندها تذكرت أهلي، أمي وأبي وتوأم روحي أختي الكبرى. تذكرت قريتي، لم استطع أن أتقبل فكرة أن أكون في ليلة زفافي وحيدة مع نساء لا أعرفهن.

خالتي أم محمد أمسكت بيدي وقالت: “ابتسمي يا ابنتي واضحكي هذا يوم عرسك. وحضَرت لك مفاجأة ألا تريدين رؤيتها؟” لم اكترث لما قالت حتى رأيت تلك المفاجأة بعيني. صحت بصوت عالي جداً: “أم علي”. ونزلت من مكاني على الكرسي وركضت وضممتها بقوة كبيرة.

أم علي كانت جارتنا في القرية وزوجة قريب لي، منذ كنت صغيرة وانا أعرفها وأعرف طيبتها كانت جارة وصديقة وأما لي. كنت أشمُ رائحة القرية فيها، رائحة أهلي، رائحة أبي وأمي وأقاربي وصديقاتي جميعا. كانت ام علي قد لجأت إلى تركيل قبل فترة من الزمن.

لقد ترك حضور أم علي في نفسي راحة كبيرة. وخففت علي بعد الأهل ومرارة الغربة .هكذا انقضت ليلة زفافي بالدموع والأشواق والحنين لموطني وأهلي وأحبابي. ليلة الفرح يقولون، ولكنها كانت ليلة حزينة. تلك ضريبة كبرى ندفعها بسبب الحرب الدائرة في سوريا.

شيماء الهاشم (24 عاماً) من معرة حرمة متزوجة وأم لطفل تقيم في مدينة اسطنبول في تركيا. كانت في سنتها الجامعية الثانية قبل أن تتوقف عن الدراسة بسبب الحرب.