لوحات فنية تحكي واقع الثورة السورية

يستعين كمال الأسعد (39 عاماً) بكرسي متحرك للذهاب إلى عمله كل يوم، في مشغل كفرنبل لإنتاج اللوحات الفسيفسائية الفنية. أصيب كمال خلال المعارك ما أدى إلى بتر قدميه. يستقطب مشغل الفسيفساء، أصحاب الإعاقات الجسدية ومصابي الحرب، أو ذوي الحاجة نتيجة الغلاء وتدني مستوى المعيشة.

المدير التنفيذي لمشغل كفرنبل لإنتاج اللوحات الفسيفسائية الفنية أحمد البيوش (45 عاماً) يقول: “عرضنا المشروع على مؤسسة أورينت الإنسانية، فتمت الموافقة عليه واحتضنوا المهنة. خاصة بعد أن علموا أن العمال هم من مصابي الحرب المنسيين من قبل المنظمات والجمعيات. حيث يتعلم هؤلاء الشباب المهنة بعد أن يخضعوا لدورة تدريبية، يتقاضون الأجور حتى اثنائها “. ويؤكد البيوش أن غالبية اللوحات تعبر عن معاناة ومآسي الشعب السوري تخليداً لما عايشه من مآسي ودمار وقصف.

يقوم هؤلاء العمّال بتطويع الحجارة وتنسيقها، لتشكيل لوحات تعبيرية مواكبة للواقع المأساوي. لتكون تلك اللوحات شاهدة على حكاية الشعب السوري في ثورته ضد الظلم والطغيان على مر العصور. تسرد اللوحات قصصا من الحقيقة، تخبر الأجيال القادمة عن التضحيات والدماء الذكية التي سقطت على أرض الوطن في سبيل الحرية والكرامة.

من مشغل الفسيفساء في كفرنبل تصوير سونيا العلي

سليم (25 عاماً) مساعد مدير المشغل يقول “يقوم العمال داخل المشغل بصناعة المكعبات الصغيرة لاستعمالها في زخرفة وتزيين الفراغات الأرضية والجدارية، عن طريق تثبيتها فوق الأسطح الناعمة. نستعين داخل المشغل بفنانين يقومون بتشكيل التصاميم المتنوعة ذات الألوان المختلفة “. ويلفت سليم إلى أن المشغل تمكن من توفير فرصة عمل لأكثر من 150 شخصاً. كما وأن في مدينة كفرنبل التي لا يتجاوز عدد سكانها 26 ألف نسمة، نحو مئتي عاملة تسعين إلى امتهان هذه الحرفة النادرة، التي تتطلب مهارة كبيرة وصبراً وموهبة.

سوسن (22 عاماً) إحدى الحرفيات في المشغل تقول “لقد امتهنت هذه الحرفة للضرورة، من أجل توفير مصدر رزق لي ولأسرتي، ولكن سرعان ما تحولت هذه الحرفة إلى رفيقة مشواري، وموطن فن وإبداع بالنسبة لي”. وتتحدث سوسن عن طبيعة عملها الذي يمر بمراحل عدذة “تبدأ بقص قطع الحجارة، مروراً باختيار الرسم المناسب، ثم القيام بالتركيب والتنسيق، إلى أن ينتهي العمل بلوحات فنية رائعة، تستخدم في تزيين المنازل وتوضع على الجدران أو في الأسقف”.

أما محمود الفارس (37 عاماً) فلديه قصة مع لوحات الفسيفساء، يريد أن يحكيها حيث يقول “لقد فقدت الرؤية بعيني اليسرى تماماً، ثلاثة من أصابع يدي اليسرى أيضاً نتيجة لقصف الطيران المستمر على مناطقنا. جلست في المنزل دون عمل، وساءت أحوالنا المعيشية لدرجة أننا بالكاد كنا نحصل على قوت يومنا، مع العلم أنني أب لخمسة أبناء”. وكان محمود يشعر دائما بالخيبة واليأس والألم الذي كاد أن يدمر حياته ويحولها إلى جحيم لا يطاق. وعندما سمع بافتتاح المشغل سارع وانضم إليه مع زملائه وخضع للدورة التدريبية. وكان محمود يتعلّم بسرعة لأنه يريد أن يغير حياته ويجعل لها معنى، ويضيف “بدأت العمل داخل المشغل وشعرت أنني عدت إنساناً. يزورنا الكثير من الناس ويعجبون بأعمالنا، وأنا اشعر بالسعادة لأن الإقبال كبير على شراء لوحاتنا، وأستطيع الآن أن أعيل أسرتي مما اتقاضاه من عملي الجديد. أولادي لن يعودوا بحاجة لأحد بعد اليوم “. محمود يحب عمله الجديد وسيستمر فيه، ولن يعود إلى حياة العزلة والوحدة والحاجة.

الرسام علي الأسود (30 عاماً) يعمل داخل المشغل في رسم اللوحات الفنية يقول “أرسم اللوحات منذ زمن، ولكننا نتجه اليوم في رسومنا نحو تخليد الصورة الحاضرة في أذهاننا، تلك الصورة اليومية التي تمثل الموت والدمار، ويقوم الحرفيون بتحويلها إلى فسيفساء، فهم يعهدون إلى أحجار قريتهم أن توصل معاناتهم إلى أرجاء العالم كافة”. ويوضح الأسود بأنهم لا يكتفون بتصوير المعاناة  بالداخل السوري فقط بل بالخارج أيضا حيث يرسمون معاناة النازحين في المخيمات ودول الاغتراب.اللوحات وبحسب الأسود يتم بيعها في الداخل السوري، وبأسعار تبدأ بـ 50 دولار للوحة الواحدة وما فوق، وهم الآن بصدد لتطوير العمل وافتتاح المعارض في الدول المجاورة، وتوصيل رسالتهم عن طريق تلك اللوحات التي تدوم لآلاف السنين وتكون نبراسا للأجيال القادمة.

سوزان زائرة من تركيا جاءت لتفقد أحوال الشعب السوري والاطلاع على هموم السوريين، من أجل السعي لمساعدتهم وتقديم كل ما يمكن من أجل اغاثتهم و عونهم. زارت سوزان المشغل والمعرض الوحيد التابع له في كفرنبل، وأبدت إعجابها به قائلة “تكاد مدينة كفرنبل في محافظة إدلب تكون متحفا مفتوحا لهذه الحرفة الرائعة، فلوحات الفسيفساء تطالعك في أكثر من مكان، في الشوارع والمؤسسات وقاعات الاستقبال. إنها لوحات فنية رائعة وخطّتها أنامل أشخاص معذبين، أرادوا أن يثبتوا وجودهم من خلال هذه الحرفة، فأبدعوا فيها”. وتعتقد  سوزان أن هذا المشغل استطاع ضمن منطلق إنساني أن يرفع الروح المعنوية لدى المصابين بإعاقات جسدية، وأبعد عن أذهانهم فكرة أنهم عالة على الآخرين، واستطاعوا أن يثبتوا قدرتهم على العمل وبأنهم شريحة فاعلة في المجتمع. وتضيف سوزان “يجب علينا وعلى جميع من يملكون قلباً إنسانياً أن نسعى إلى تشجيع مثل هذه المواهب التي تدل على قدرة الإرادة التي تولد من رحم المعاناة “.

وفي ختام اللقاء يقول مدير المشغل أحمد البيوش”لقد كتب الله على بعض السوريين الإعاقة ولكنه لم يكتب المذلة، لذلك علينا أن نساعدهم في البحث عن أبواب جديدة للرزق بعد أن أجبرتهم الحرب على فقد أبواب رزقهم، لقد رفضوا أن تغدو حياتهم على هامش البشرية، وتمردوا على من يرغب بأن تكون حركتهم الوحيدة الاستسلام لصندوق معونات شهرية يعطيهم شيئا ويسلبهم أشياء “.