لن أذهب إلى حلب مرّةً أُخرى!
نساء مع أطفالهم اثناء زيارة الأقارب - - تصوير معهد صحافة الحرب والسلام
"وعاهدتُ نفسي ألا أذهب إلى حلب مرّة أُخرى! نتيجة ما عانيتهُ من خَوف"
أذكرُ أنهُ كانَ يوم أربعاء في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2013. يومها، عندَ الخامسة فجراً استيقظت، وارتديتُ معطفي واتجهت إلى كراج النقل في بلدتي، للذهاب إلى حلب. كان علَي أن أذهب، كي أُحضرَ إفادة من معهد الفنون الجميلة، استجابةً لطلب مدير معهد إعداد المُدرّسين في إدلب.
وصلتُ إلى الكراج، وجلستُ في المقعد الثاني. كنتُ في بادئ الأمر، الفتاةَ الوحيدةَ في الحافلة. بعدَ قليل، جلستْ بقربي إمرأة تحملُ حقيبةً في داخلها كتب. لأعلم منها بعد ذلك، أنها دكتورة في جامعة حلب، وبأنها تذهب باستمرار إلى هناك، من أجلِ عملها. وانطلقت الحافلة…
في منتصف الطريق سألتني السيدة: “متى كانت آخر مرّة ذهبتِ فيها الى حلب؟”
أجبتها: “لم أذهب منذُ العام 2011!”
فقالت: “وكيف ستمرِّين عبرَ المعبر؟!”
معبر؟! لم أفهم شيئاً… أيُّ معبر الذي تتحدّث عنه؟! وبدأت تلك السيدة تشرح لي، عن كيفية العبور إلى حلب، وأنهُ علينا التنقُّل بينَ المناطق التي يُسيطر عليها جيش النظام والمناطق التي يُسيطر عليها الجيش الحر… فلم أكن لأتخيَّل قبل صعودي الحافلة، أنَّ الأمر صارَ بهذه الصعوبة!
عندَ التاسعة والنصف، قال السائق: “ها نحنُ قد وصلنا… أي شخص يُريد العودة معي، عليه أن يسجّل إسمه عندي. لكن عليه أن يعود قبل الساعة الثانية عشر ظهراً”. أعطيتهُ إسمي كي أعودَ معهُ… فكل ما أُريدهُ من حلب هو مجرَّد ورقة! سأنتهي قبل الثانية عشر…
نزلنا من الحافلة، ورافقتني السيدة التي كانت تجلس بجانبي، باتجاه معبر النظام، ويليه معبر الجيش الحر. صارَ الطريق أشدَّ ازدحاماً… فشعرتُ بالخوف. لكن كلّما كنا نقترب من حاجز النظام، كلّما صارَ الإزدحام أقل.أمسكت السيدة بيدي وقالت: “حافظي على هدوئك، ولا تُفلتي يدي”.
أيُّ هدوء هذا الذي سأُحافظ عليه؟! ففي منتصف الطريق، بدأت الإشتباكات بين النظام والجيش الحر! وبدأ الصراخ: “انتبهوا انتبهوا… انبطحوا على الأرض”! صرتُ أتشاهد على روحي…
جاءَ رجل بزيٍّ عسكري، وشدَّ بي بقوة إلى داخل مبنى كبير، فسقطتُ أرضاً. قلتُ لنفسي وأنا على الأرض: يا إلهي ما هذه الورطة التي ورَّطتُ نفسي بها؟! وكيف سأعود إلى إدلب؟! ولِمَ لم أسمع لأهلي، لماذا أُخاطرَ بنفسي! فدخلت السيدة التي لم تكن لتتركني لولا أني ركضتُ من الخوف. وقالت لي: “لماذا تركتِ يدي؟!” نهضتُ مسرعةً وأمسكتُ بيدِها مجدَّداً…
بقينا داخل المبنى لنصف ساعة، حتى انتهت الإشتباكات. عُدنا إلى الطريق بعدها، وبدأنا بالتقدُّم… ليظهر أمامنا علمُ النظام على بُعدِ ثلاثمائة متر تقريباً…
هناك كانت المفاجأة! على كلِّ شخص أن يركضَ بسرعةٍ كبيرةٍ قبل الحاجز، كي لا تُصيبه القنّاصة التي تستهدف الشارع بشكلٍ عشوائي! نعم انطلقتُ كالبقية… وصرتُ أركض وألومُ نفسي على مجيئي!
إلى أن وصلنا إلى الحاجز…
عندَ الحاجز، كان أحد العناصر يضعُ مذياعاً عليه أغنية جبلية تملأ بصوتها المكان! وعُنصر آخر كانَ يفتّش كلَّ شخص يمر… مزيج من الجنون! أعلمُ ذلك…
مررنا بسلام… ورحتُ برفقة الدكتورة إلى الجامعة. أعطتني رقمها، وأخبرتني أنهُ إن لم أستطع العودة إلى إدلب، أن أتصل بها… جلبتُ الوثيقة من المعهد، ثمَّ انطلقتُ مسرعةً في طريق العودة.
هذه المرة أنا وحيدة… كان وجهي أصفراً من شدّة الخوف! كانت الساعة الحادية عشر و15 دقيقة… كيف سأعود إلى المعبر وأجدُ الحافلة التي ستنطلق عند الثانية عشرَ؟
صعدتُ بسيارة أُجرة، بدلاً من النقل العمومي… علّني أُسرع بالعودة! قالَ لي السائق، ستعبرين المعبر وحدكِ… وإياكِ أن تتوقّفي عن الركض. وفعلاً نزلتُ من سيارة الأُجرة، وركضت… كنتُ أسمعُ شاباً مُنادياً: “أرجوكم ساعدوني… أبي أُصيبَ برصاص القنّاصة”.
وكما أوصاني السائق… لم أتوقّف حتّى وصلتُ إلى الجهة التي يُسيطر عليها الجيش الحر عند الثانية عشرَ تماماً، ولكن لم أجد الحافلة! فجلستُ على طرفِ الطريق أنتظر…
بعد ساعة، أتت حافلة أُخرى متجهة إلى إدلب، فصعدتُ على متنها وفي قلبي الخوف والغضب، وفي يدي ورقة… من أجلها كنتُ سأموت!
تلكَ كانت زيارتي الأولى إلى حلب بعد الثورة… وعاهدتُ نفسي ألا أذهب إلى حلب مرّة أُخرى! نتيجة ما عانيتهُ من خَوف.
ولاء كرم (25 سنة) من ريف إدلب، تعمل كمُدرّسة. خرّيجة معهد الفنون الجميلة، ومقيمة حالياً في ريف إدلب بعدما نزحت منهُ مرتين.