لم يعد أمامنا سوى أن نبيع كل ما نملك
أنا فتاة مفعمة بالحيوية والنشاط، أعيش في بيت يعج بالأخوة والمحبة. القهوة صباحاً بجوار الورود وعريشة الياسمين لها مكانة دائمة في يومنا الواثق بقضاء الله. هي جرعة من التفاؤل أبدأ به يومي، وتساعدني على أداء عمل أفضل، أكمل بقية طقوسه المقدسة مع أبي وأختي ونحن ذاهبون إلى عملنا سوية.
كنت أعمل في مدرسة خاصة في قريتي، وكنت مرتاحة وأحب عملي. وكان طلابي يحبونني كثيراً، لأنني كنت أعاملهم على أنهم أصدقائي وليسوا طلاباً. وكنت إضافة إلى التعليم أعمل كمرشدة اجتماعية، حيث كانت الطالبات يلجأن إلي لمساعدتهن في مشاكلهن وإيجاد حلول لها. كم كنت سعيدة في تلك الأيام، ولكن سرعان ما بدأت الأحوال والظروف في سوريا تتغير. وبدأ الوضع يسوء في منطقتنا، فبدأ الناس يخرجون مظاهرات سلمية رداً على ما يحدث في المناطق والمدن الأخرى في سوريا، ومن ثم تطورت الأحداث شيئاً فشيئاً…
واقتحم الجيش قريتنا. يا له من يوم صعب. بدأت الدبابات تنتشرعند جميع المداخل، وحاصرت الأهالي في المنطقة بأسرها، ومنعت الناس الخروج من منازلهم لساعات طويلة. وتوقفت الحياة في المنطقة. لم أعد أقدر على الذهاب إلى عملي بسبب الظروف التي أدت إلى توقف الحياة كلها. حتى النفس الذي يخرج منا توقف. وكل يوم نستيقظ على صوت الرصاص والقذائف الآتي من كل مكان، فكنا نقضي كامل وقتنا في ملجأ كنا قد أعددناه مسبقا تنبؤاً بما هو قادم.
ذات يوم شدَ والدي صوت آتٍ من منزل جارنا، ترافق مع إطلاق رصاص. هرع ليتفقد الوضع، وإذا بمجموعة من جنود النظام قد اقتحموا المنزل واعتقلوا جارنا مع أولاده الثلاثة. عاد والدي إلى المنزل، وعلامات القلق ظاهرة عليه. قال لنا: “يجب أن نخرج من هنا بأي طريقة كانت لأن الجنود لا يرحمون أحداً”.
بدأنا نحضر أنفسنا للخروج من القرية، لم نعرف ماذا علينا أخذه معنا. فقالت أمي: أسرعوا يجب أن نخرج، وإلا اعتقلونا أو متنا جميعا”. بدأ جميع أولاد إخوتي وأخواتي بالبكاء والصراخ ويتوسلون إلينا بأن نسرع و نخرجهم، قبل أن يقتحم الجيش الملجأ ويقتلنا جميعاً. وفي خضم كل هذه الأحداث كان صوت القذائف والرصاص لا ينقطع. انتظرنا حلول الليل علّه يكون أكثر أماناً. بدأ قسم من الناس يخرجون من القرية طمعاً بالوصول إلى بر السلامة المرتقب. قال والدي: “لا مجال للتوقف، يجب علينا أن نخرج والله الموفق. خرجنا بسيارة نقل صغيرة وسلكنا طريقاً فرعياً وغير صالح لسير السيارات، كان قد أمّنه الثوار لخروج الأهالي من القرية. كنّا خائفين كثيرا والأولاد كانوا يبكون من الخوف والرعب، لأن الصوت الوحيد الذي كان يرافقنا كن صوت الرصاص والقذائف التي تسقط هنا وهناك. وأذكر أن أمي كانت تردد: “اللهم احمنا واخرجنا بسلام وآمان يا رب، يا الله لطفك”.
لم أكن اعتقد أننا سوف نخرج سالمين من القرية، بسبب الانتشار الكثيف للقناصة على اسطح الأبنية، والتي كانت تستهدف كل ما يتحرك خصوصاً السيارات. كانت نفسياتنا متدهورة وقلوبنا ترتجف من الخوف، وفي الوقت نفسه كنت على يقين بأن الله معنا، وسوف ينجينا.
بقيت عيوننا تنظر إلى الطريق عسى أن تكون نهايته آمنة وسعيدة. والحمد لله وصلنا إلى مزرعة مجاورة لقريتنا ظنناها أكثر أماناً. وصلناها عند الفجر فحمدنا الله وشكرناه على سلامتنا وسلامة الصغار الذين لم يتوقفوا عن البكاء حتى للحظة. نزلنا في بيت أحد أصدقائنا وكان شبه مهجور، ولكن الخوف من الموت أو الاعتقال اجبرنا على أن نقبل بأدنى شيء. وللأسف في اليوم التالي بدأ الجيش بالقصف على القرى المجاورة، وكانت القذائف تتساقط هنا وهناك. لم نعد نعرف ماذا سنفعل بأنفسنا، وإلى أين سنذهب. تناقل البعض أخباراً تفيد بأن قريتنا قد هدم أكثر من نصفها، والنصف الآخر قد أحرق ونهب بالكامل . وصلنا خبر أن عناصر الجيش دخلوا إلى منزلنا وعاثوا فيه فساداً. فقالت أمي: “الحمد لله أننا لم نكن هناك، فلو كنا هناك لكان مصيرنا الموت حتماً”.
وفي تلك الأثناء كانت المعارك دائرة بين الثوار والجيش، وبفضل الله ورحمته استطاع الثوار تحرير المنطقة. فكرنا بالعودة إلى منزلنا لأن أغلب الناس قد عادوا. أما الذين هدمت بيوتهم، فخرجوا إلى مناطق آخرى لأنه لم يعد لديهم ما يعودون إليه. قرر والدي الذهاب إلى قريتنا برفقة أخي الكبير ليرى إذا ما كان بالإمكان العودة إلى منزلنا. وما إن وصلا إلى مشارف القرية، وإذا بالرصاص والقذائف المدفعية تطال كل مكان بدون استثناء. أصابت إحدى القذائف منزلنا، والحمد لله كانت الأضرار بسيطة. عاد والدي وأخي وقالا لا مجال لنا للعودة إلى القرية، لأن الوضع خطير جداً والجيش لن يتركنا بسلام، وسيدمر بمدافعه وطائراته البيوت على رؤوس أصحابها.
قررنا النزوح إلى منطقة أكثر أمانا للإستقرارفيها. بعد معاناة طويلة، أخذنا منزلاً. ولكنه كان لا يتسع لنا جميعاً. لأننا كنا 20 شخصاً، وكانت أحوالنا صعبة. فالمعيشة غالية جداً، ولا نملك أي دخل يساعدنا على العيش. بدأنا نبحث عن عمل، ولكن لا جدوى. تواصلنا مع العديد من الأصدقاء رغبة في مساعدتنا على إيجاد عمل، ولكن للأسف لا حياة لمن تنادي. فلم يعد أمامنا سوى أن نبيع كل ما نملك، ولم أكن أملك إلّا خاتمي، الذي كان هدية التخرج من الجامعة. لا حل أمامي سوى ذلك، لأن أحوالنا كانت صعبة جداً ولا تطاق. أبي وإخوتي يبحثون عن عمل، ولكن لا جدوى. حينها أحسست أن الكون ضاق بنا، وأضحى كوخاً مظلماً لا حياة فيه. وتساءلت أين هم أهل الخير ومن كنا نظنهم أهلنا، فكلٌ يمشي وراء مصالحه، ولا يلتفت إلى أخيه الانسان ولو للحظة. ولكن بجانب كل ذلك كان لدي أمل كبير، اتنشقه من صبر أبي ودعوات أمي وصلواتنا. لأن الله وعدنا بالأجر والفرج بعد كل ضيق، فيا رب نحن نؤمن بقضائك ووعدك ولكن عجَل لنا بفرجك فما عدنا نتحمل المزيد.
رولة عبد الكريم في العشرينيات من العمر تحمل إجازة في علم الاجتماع .تعيش مع عائلتها في ريف إدلب.