لست الوحيدة ولست الأولى أو الأخيرة
كنت أغازل زهور بيتي، التي ما برحت تشاركنا قهوتنا الصباحية السكرى بصوت فيروز، ووجه أمي المبارك. قاطع جلستنا صوت الباب المذعور. أسرعت إليه، تسبق ظنوني قدمي، وكانت المسافة طويلة على الرغم من أنها لا تتجاوز بضعة أمتار. وخلال هذه الثواني القليلة مرَ برأسي ألف ألف احتمال. وما زاد الموقف صعوبة، قفل الباب ولكأنّه يعاندني ولايرضى أن يرحمني ويفتح. وأخيراً ظهرت جارتنا أم مصطفى، قابلتها بوجهي الشاحب خوفاً، وما زاده شحوباً لهجة الذعر التي حدثتني بها هذه الطيبة.
بادرتني أم مصطفى بالقول: “صباح الخير يا بنتي”.
“صباح النور يا خالتي العزيزة تفضلي”.
حرارة اللقاء والضيافة لم تحل دون تسلل البرد إلى كفّينا عند المصافحة. هل كان الخوف هو ما أصاب أطرافنا بالصقيع؟ اصطحبتها إلى جلستنا حيث كنا نرتشف قهوتنا. قدّمت لها بيدين مرتجفتين فنجاناً كنت قد وضعته على الطاولة، ليكون من نصيب أول من نتبارك بزيارته الصباحية، وهي عادة محببة عندي. القهوة السادة معشوقتي الأزلية، ولكن لعلّ الخبر الذي صعق قلوبنا قبل آذاننا قد زاد المر على قهوتنا المعتادة. “الجيش سيقتحم القرية هذه الليلة، والأهالي ينوون الخروج حفاظاً على أولادهم وأرواحهم، فهل ستخرجون أم لا؟” هكذا أخبرتنا الجارة دون تمهيد أو مقدمات، دون أن تجلس أو حتى أن ترتشف بعض القهوة. واستأذنتنا بالرحيل قبل أن تسمع جوابنا، تاركة إيّانا في حيرة وتخبّط.
بين الخوف والتوتر والتفكير والتبلد، نظرت إلى وجه أمي المبارك، فوجدته مسلوب الرونق. جمدت عيناها الجميلتان من هول الخبر. فقالت لي بصوت تخنقه الدموع: “أخبري والدك وإخوتك إنهم في غرفة الجلوس”. أصوات أولاد إخوتي الذي تناهى إلى مسمعي، جعلني أقف هنيهة مترددة قبل الدخول ونقل الخبر، الذي سيعكّر صفو لقائهم الرائع. ناديت لأخي الكبير، ووقفنا جانباً وبعدها أخبرته، بعيداً عن مسمع الأطفال المظلومين بحربنا هذه. حاول أخي أن يخفف من حدة توتري، بقوله “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”. نعم يا أخي أؤمن جيدا بقضاء الله وقدره، ولكن علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حال الأطفال على الأقل، وما سيحل بهم في ضجيج أصوات القذائف والصواريخ والرصاص.
جلست في أرجوحة البيت برفقة أحفاد العائلة الصغار، إفساحاً في المجال لوالدي وإخوتي مناقشة موضوع خروجنا من القرية قبل بدء الاقتحام. لتحسم الجلسة بالرفض، والاعتماد على الله ومن ثم على القبو الذي جهزناه على عجل تحسباً لهكذا يوم. ونقلنا ما يساعدنا على العيش، ويسد رمقنا لبضعة أيام الى ذلك القبو الصغير المظلم. فالكهرباء منقطعة عن أرواحنا ايضا. كنا قرابة العشرين شخصاً، والمكان لا يتسع لأكثر من عشرة أشخاص.
بدأ الليل يسدل ستاره المخيف، وصوت صمته المرعب يلف المكان. وحدها أصوات القذائف والرصاص التي كانت ترعد في القرية الموحشة، مع صراخ الأطفال وبكائهم ودعوات أبي وأمي. وسط خوفنا الذي تسابقنا على إخفائه عن عيون الأطفال، الذين لم نستطيع السيطرة على خوفهم.
يا الله كيف لي أن أخبركم عن تلك الثواني الفاصلة بين صوت القذيفة وصوت سقوطها، وما تحمله في طياتها من ذعر وهلع. خوف على أنفسنا وهلع على أطفالنا. يا الله على تلك الثواني ما أقساها وما أثقلها على أرواحنا. يا لعظمة الله وقدرته، عندما مرّ صاروخ من فوق بيتنا، حينها علا الصراخ والغبار مع الدعاء والبكاء، في قبونا. بعدها اخترقت إحدى شظاياه النافذة المغلقة لتستقر قرب يد أختي الصغرى. ما ألطفك ربّي وما أوسع رحمتك، لولا عنايتك لكانت يد أختي قد بترت لا سمح الله. يا الله على هذا الدرس الذي منينا به، فقد زاد ايماننا ويقيننا ضعفين، وتركني أكثر عندا على البقاء في القرية، على الرغم من كل المخاطر المحدقة بنا جميعاً والخوف مما هو آت.
ليلتها خاصم النوم جفوننا. وحدها الصلوات والدعوات كانت تؤنس وحشة ليلتنا، وتنير بدلاً من الكهرباء طريقنا. بعد عدة ساعات في محاولات مستميتة للدفاع عن القرية ومن بقي من أهلها، تمكّن الجيش من اقتحامها. دخل بعض عناصر جيش النظام إلى بيوت القرية، نهبوا خيراتها، كما قيل لنا لاحقاً، واعتقلوا بعض من بقي من الشباب. لم يدخل عناصر من الجيش إلى منزلنا، رغم أنهم اقتحموا العديد من المنازل، ومنها بيت جيراننا الملاصق لبيتنا، لكنهم تراجعوا عن دخول منزلنا. وكان ما حصل بمثابة درس آخر تلقيته مع بزوغ شمس نهار جديد، عله يحمل معه الفرج القريب.
خلال هذه الأحداث الرهيبة والمتسارعة كان مصطفى ابن جارتنا أم مصطفى ومصدر فخرها، يعمل على تأمين مادة الخبز، لمن أجبرهم الحصار على البقاء في القرية. ولم يكد الحصار ينتهي حتى هزّ الحيّ نبأ استشهاد مصطفى بشظية قذيفة. سمعت أمه النبا حيث كانت مع من غادر طلبا للنجاة في المزارع المجاورة.
يا لروعة الأمهات في مثل هذه الظروف. لقد سطرت ام مصطفى قصة بطولة الأمهات اللواتي قدمن فلذ ات أكبادهن قرابين طاهرة ثمنا للحرية المنشودة.
أذكر الزغاريد وتهليلة “إنا لله وإنّا إليه راجعون” التي نطقت بها تلك الأم الثكلى وهي تضم أحفادها إلى صدرها الجريح، علّها تخفّف من حرقته ولوعته بعض الشيء. أما زوجته تلك الصابرة المؤمنة الشابة التي لم تتجاوز الثالثة والعشرين من ربيعها المسلوب، فقد أبكمها جلال الموقف لدقائق قبل أ، ينطقها رسالة أبكمت كل من سمعها حين قالت “حسبنا الله ونعم الوكيل، لست الوحيدة ولست الأولى أو الأخيرة، بل ولست أفضل من غيري من النساء السوريات، فكلّنا فداءً للوطن وكلنا مشروع شهداء، في أرض تليق بها الحرية وتستحق منّا كل عطاء”.
يا الله على الماجدات كيف يصنعن تاريخاً… بطولات ينحني أمامها المجد والنضال…
ردينة عبد الكريم (29 عاماً) تحمل إجازة في الدراسات العليا للتأهيل. نازحة تعمل مؤهلة اجتماعية في ريف إدلب.