قتلى وجرحى وحصار بين فصائل المعارضة…
الممرضة غفران, من مشفى القدس, ارتقت شهيدةً بقصف طائرات النظام حي الفردوس في حلب. صور من حلب بعدسة: مجاهد أبو الجود
"لا يوجد أصعب من أن تخاف من طرفٍ، المفروض به أنهُ هنا ليحميك... والأصعب، أن تخاف من أن يطعنكَ مَن كنتَ تنام وأنتَ مطمئن أنهُ يدافع عنك!"
في بيتي الصغير، أسكنُ مع عائلتي الصغيرة، أنا وزوجي وولدي ابراهيم (4 أعوام). يبعدُ بيتي حوالي الكيلومتر عن القرية. فقد بنيناه منذُ مدةٍ قصيرة بعيداً بعض الشيء عن قريتنا التي كانت وما تزال إلى الآن، تتعرّضُ لقصفِ قواتِ النظام وحلفائه بين الحينِ والآخَر.
في أحدِ أيامِ شهر شباط/فبراير 2017، كنتُ أجلسُ أمامَ المنزل وابني ابراهيم يلعبُ بقربي. وقت الظهيرة قد اقترب وعليَّ أن أبدأ بتحضير وجبة الغداء. ذهبَ زوجي إلى القرية ليُحضر لنا الخبز من بيتِ أهله كعادته من كلِّ يوم…
كنتُ أقول لابني ألا يبتعد عن المنزل أثناء اللعب، وهممتُ بالدخول إلى المنزل، انهالَ الرصاص. صرخ ابني… ولا أعرف كيف ركضت إليه، حملتُهُ واحتميتُ بجدار البيت! صوتُ الرصاص مخيف. استجمعتُ قواي وحضنتُ ولدي بقوة وركضتُ إلى داخل المنزل. أخيراً أنا وابني في المنزل!
استمر إطلاق الرصاص… فجلسنا في إحدى الزوايا خائفين، ولا أعرف ما الذي حصل؟! لكنَّ ذلك ليس جيش النظام، فهو بعيد عنا ولا يستطيع رصاصه الوصول إلينا. بعد حوالي النصف ساعة، تراجعت حدة صوت الطلقات النارية، لكن صرتُ أسمع أصوات رجالٍ في الخارج! لم يكن الصوت بعيداً عن بيتي، وقد ترافقَ مع أصوات عربات وضجيجِ سيارات.
تأخرَّ زوجي! أنا خائفة ولا أستطيع أن أفتح الباب قليلاً كي ألقي نظرةً على ما يحصل في الخارج… خوفي يمنعني من ذلك. الخوف يتملكّني، وبكاءُ ابني يحرقَ قلبي… كنتُ أُحاولُ تهدئته، لكن دون جدوى.
أحكمتُ إقفال الباب، ونظرتُ من ثقبه بكلِ حذَر وبمزيدٍ من الخوف، ومن خلف ستارة النافذة. رأيتُ أمام بيتنا عربتين عسكريتين عليهما رشاشات ثقيلة، وعربة تشبه الدبّابة! رجال مقنّعون يرتدون لباساً أسوداً قصيراً، مدجّجين بجعبهم وبنادقهم، وعلى عرباتهم راياتٌ سود.
ما استنتجته أنه حاجز لأحد فصائل المعارضة أمام بيتي وأنا وولدي الصغير لوحدنا… ذاكَ المشهد زادَني خوفاً، وراحت الأفكار تعصفُ بي…
وبعد مدة قصيرة، سمعتُ صوتَ عرباتهم وسياراتهم وكأنها تغادر. واختفى الصوت تدريجياً، لكنّ الخوف منعني من أن أفتح الباب كي أستطلع الأمر. وسط الهدوء المخيف الذي خيَّمَ، نام ابني. فوضعتهُ في فراشه…
وإذ بالباب يُطرَق! يا إلهي هل عادوا؟! لم أتلفّظ بحرفٍ واحد… فعاودوا طرقَ الباب! لكن هذه المرة سمعتُ صوتَ زوجي يقولُ لي: “افتحي… أنا زوجك!” ركضتُ وفتحتُ الباب… استيقظَ ابني مع صوت أبيه. ضمّهُ أبوه وراح يمسح على رأسه، وصارَ ابني يقصُّ له ما حدث بلغته الطفولية البريئة، ويُعاتبه قائلاً: “لِمَ تأخّرتَ يا بابا؟”
أخبرني زوجي أنّ فصيلين من فصائل المعارضة كانا يتقاتلان، وقد وقعَ قتلى وجرحى من الطرفين! قامَ أحد الفصيلين بدخول القرية كَي يُداهم مقرات الفصيل الآخَر… وأقاموا الحواجز داخل القرية وعلى كلِّ مداخلها ومخارجها، ومنعوا الناس من الخروج من منازلهم تحتَ أيِّ ظرفٍ كان!
كان زوجي قد حاولَ العودة إلينا منذُ أن بدأت الاشتباكات، ومنعه المقاتلون من العبور بالقوة … لذا خافت عليه والدته، فأمسكت به وأعادته إلى المنزل. زوجي كان عالقاً في منزل أهله، وأنا وابني كنا عالقَين هنا.
حينَ عاد زوجي لم يكن قد أحضرَ معهُ الخبز… فوضعتُ بقايا الخبز القديم على العشاء، وحمدنا الله أنهُ قد انقضى اليوم على خير ودعونا أن تهدأ الأحوال بين فصائل المعارضة المتقاتلة.
في الفجر، قبل شروق الشمس، عادَ صوت الرصاص والرشاشات والعربات والسيارات! ذات السيناريو يتكرّر! ذات الاشتباكات تُعاد… وعادَ الحاجز!
لم أسمح لزوجي بالخروج… الشمس لم تُشرق بعد، فقد يحسبوه أنه يحمل السلاح فيقتلونه! وحينَ أشرقت الشمس، أردنا الذهاب إلى منزل أهل زوجي علّنا نمكث عندهم ريثما ينتهي الإشكال بين الطرفين! فهو أكثر أماناً من منزلنا… لكنّ الحاجز منعنا من الذهاب، وطلب منا أن ندخل إلى بيتنا وأغلق علينا الباب!
اضطررنا لتنفيذ ما يقولونه! عُدنا إلى المنزل…
ابني جائع ولليوم التالي لا يوجد خبز! طبختُ بعضَ الأرز… لكنَّ هذا الفطور لم يُعجب ولدي الصغير، هل يكون الفطور أرزاً؟ راحَ ابني يبكي وهو يردّد: “أُريدُ الخبز”، لكنهُ في النهاية قد أكل الأرز فليسَ من خيارٍ آخر أمامه!
وجاء وقت الظهيرة، ثمَّ العصر… والحاجز ما يزال هنا، وإطلاق النار يقضُّ مضاجعنا بين الحين والآخر. ثمَّ جاءَ المساء… وضعتُ الفراش داخل الحمّام ظنناً مني أنه أكثر أماناً… فقد كنا نخاف من أن تستهدف إحدى طائرات النظام الحاجز المجاور، فتخطئ بالهدف وتصيبنا. نعم نمنا تلكَ الليلة في الحمّام!
عندَ الصباح، كان الحاجز قد رحلَ… وبعد وقت، كان زوجي وابني قد استيقظا، وإذ بأخ زوجي قادمٌ إلينا على دراجته النارية، حاملاً معهُ هدية جميلة جداً! كيسُ خبزٍ، بعد انقطاعٍ ليومين… أخبرَنا أنّ فصيلاً ثالثاً من فصائل المعارضة قد تدخّل لحلِّ الخلاف بين الفصيلين المتقاتلين، وأنّ قريتنا الآن باتت خالية من الطرفين…
الآن… بدأتُ أشعرُ بطعمِ الحرية، لأنهُ صار بإمكاننا الذهاب إلى القرية لإحضار الخبز والطعام. لقد مرّرنا أثناء الثورة بأيامٍ صعبة، من قصفٍ وتدميرٍ وتهجير… وقذائف مدفعية، وراجمات، وغاراتٍ وبراميل متفجّرة… لكنّ هذين اليومين كانا الأصعب بجدارة!
لا يوجد أصعب من أن تخاف من طرفٍ، المفروض به أنهُ هنا ليحميك… والأصعب، أن تخاف من أن يطعنكَ مَن كنتَ تنام وأنتَ مطمئن أنهُ يدافع عنك!
أمل الغد (29 عاماً) من بلدة حيش في ريف إدلب الجنوبي، متزوجة ولديها طفل. حاصلة على شهادة في الهندسة المدنية من جامعة حلب، كانت تقيم مع زوجها في حلب ولكن بعد انشقاقه عن النظام عادت لتسكن في بلدته كفرسجنة.