في دوما وحدها الحياة بقيت متأرجحة
لا شيئ مختلف، صباح جديد من صباحات مدينة دوما، جاء بعد ليلة باردة حملت معها بعض القذائف الصاروخية، أطلقتها قوات النظام المتمركزة على تخوم الغوطة الشرقية … قاربت الساعة الثامنة صباحا … وقفت أمام باب منزلي، كعادتي، أتبادل تحية الصباح مع أولاد عمي القاطنين في نفس البناء الذي أسكن فيه. لم تمضِ سوى لحظات حتى سمعنا صوت انفجار قريب جدا لصاروخين ألقت بهما الطائرة على مدينتنا. أحسست برأسي ينفجر لهول الصوت.
قال ابن عمي ساخراً: “خير شو في حتى مبكر الطيار اليوم؟”
أجبته ساخرة أيضاً: “بدأ دوامه، ونحن يجب أن نذهب إلى عملنا”.
لكن أمي أصرت أن لا أذهب. قالت: “اليوم من الصبح مكركب كتير بلا ما يصير شي خليكي هون”.
فأجبتها: “ما بيصير غير يلي كاتبو الله، و لا تخافي عليي لأنو اليوم بدي روح على الكافيه نت شوف الأخبار”.
استسلمت لرغبتي، ودعتني داعية الله لي بالحماية. عشر دقائق فقط استغرق وصولي إلى مكان عملي. وإذ بالغارة الثانية على المدينة. ولكن هذه المرة ألقت الطائرة أربعة صواريخ في غارة واحدة. تبعها صاروخان من الراجمة. حينها بدأت تتعالى الأصوات، وهرع الجيران إلى قبو المبنى الذي أعمل به، علّهم يحتمون من غدر صواريخ الموت.
العم أبو علي الذي يعمل معي قال لي: “عودي إلى المنزل، يبدو النهار اليوم ما رح يمضى على خير”.
ودّعته، ولكن لن أعود إلى المنزل لأنتظر الموت. قررت الذهاب إلى منزل صديقتي ولاء. هناك سأتمكن من تصفح الصفحات الإخبارية. فنحن ليس لدينا اشتراك بالمولد الكهربائي في الحي حيث أقيم. فكلفة الإشتراك المادية كبيرة. وبالتالي سوف أقضي يومي كله في ظلام الترقب والقلق، تابعت طريقي إلى منزل ولاء.
غارة جديدة و أصوات سيارات الاسعاف هي وحدها التي تغطي على صوت انفجار الصواريخ. وصلت إلى منزل صديقتي لأجدها قد نزلت الى الطابق الارضي من بناء منزلهم، حيث تجمعت هي و أقاربها ووأولادهم في غرفة واحدة خوفا من الطائرات. القيت التحية عليهم وفرحوا بقدومي، وأحاطوا بي يسألونني عن الأوضاع خارج منزلهم. وأخبرتهم أين ألقت الطائرة بصواريخها. فالرجال في الطريق كلهم يتبادلون الأحاديث حول موقع الغارات. وبدأت مآذن المساجد في المدينة تطلب من الأهالي إخلاء الطوابق العليا من المنازل، والنزول إلى الأقبية التي هي بالاساس غير متوافرة بدرجة كافية. سادت حالة من الرعب بين الناس، ولكن الجميع حاول أن يتمالك أعصابه فنحن كنا قد ألفنا الموت واعتدناه. ولكن تبقى أصوات االغارات لها وقعها الذي يقتل الإنسان قبل أن يقتله صاروخ تلك الطائرة.
أصبحنا في منتصف النهار تماما، والقصف مازال مستمراً، والاسعاف و الموت. وحدها الحياة من بقيت متأرجحة، أصوات أناس وقع بيتهم على رأسهم تطلب المساعدة. وأصوات سيارة الإسعاف التي تسرع بشكل جنوني، في محاولة لإنقاذ تلك الأرواح. والطيار المجرم يمارس عرضه العسكري في سماء، لا يوجد تحتها إلا قلوب أنهكتها الحرب وأضناها الجوع والحرمان، و أطفال لم يعرفوا من طفولتهم شيء إلا آلة الحرب و الدمار.
و أخيراً تم تشغيل المولد الكهربائي، تحلّق جميع من في الغرفة حول جهاز التلفاز لنشاهد القنوات الاخبارية، لنعرف منها ما لذي يحدث. ولكن مع ضخامة الحدث الذي نعيشه وجدناه قد أهمل على شاشات التلفزة، واحتل مكانه على عناوين الأخبار زيارة المسؤول الفلاني الى الدولة الفلانية، وخطاب المعارض الوطني، وحفل المؤيد الخائن، متفرقات رياضية، وبرامج للطبخ ومسلسلات وبرامج اعلامية. أما نحن فقد ظهرنا بخبر صغير على شريط عاجل، يعدد غارات الطائرة وأهدافها التي حققتها في حملتها، والأرواح التي أزهقتها والأجساد التي قامت بتمزيقها. موت السوريين بالجملة، لم يعد لهذا الخبر بريقه الإعلامي. خابت آمالنا وتركنا التلفاز. أما أنا ففتحت حسابي الشخصي على الفيس بوك، وبدأت بنشر الأخبار، ومتابعة ما يكتبه أصدقائي محاولين رفع صوت مدينتنا الثكلى فوق صوت الطائرة و فوق صوت الظلم.
فجآة انفجر صاروخ بالقرب من مكاننا، علت أصوات الأطفال في المكان، وضجت النساء وارتعبت. خرج الجميع من الغرفة التي جلسنا فيها. أما أنا فرفضت أن أخرج لأتابع عملي. وحدها رهف الصغيرة التي لم تتجاوز العشرة أعوام بقيت بجانبي.
ابتسمت لي رهف وقالت: “خالة أنت ما بتخافي؟”
أجبتها “لا ما بخاف، ما في شي بيخوف إلا ضحكتك وقت بتروح .الموت ما بيخوف”.
بقيت رهف إلى جانبي، وعندما أصبحت الساعة الخامسة مساءً، كانت قد توقفت غارات الطيران بشكل مؤقت. ودّعت صديقتي مسرعة إلى منزلي لأطمئن على أهلي. و الحمد لله وجدت أهلي بخير، ولكن مدينتي منكوبة بشكل كامل. وعداد الشهداء لم يتوقف.
حلّ الليل ليغطي جرائم إبادة كاملة، ارتكبها النظام المجرم بحق شعب جريمته الوحيدة أنه طالب بحريته، فدفع ثمناً لها أرواح أهله وتاريخا كاملاَ أصبح عبارة عن ذكريات منسية.