في حاس أطفالٌ يموتون وحقائبهم المدرسية بأيديهم!
صورة لإحدى المدارس التي استهدفتها الغارات في حاس تصوير أحمد السليم
لم يكن صباح بلدة حاس في ريف إدلب الجنوبي يوم الأربعاء 26 تشرين الأول/أكتوبر، يختلف عن بقية الأيام خلال الحرب… لكنَّ الساعة العاشرة غيّرت ذلك الصباح نحو مزيد من السوداوية. حيث شهدت هجوماً على مجمّع المدارس في البلدة عبر طائرتين للنظام، تناوبتا على إطلاق ثمانية صواريخ محمّلة، استهدفت المدارس وكافة الطرق المؤدية إليها.
القصف سبّب سلسلة انفجارات. الإنفجار الأول حدث في الساحة الرئيسية في ملتقى المدارس. وتابعت الطائرات القصف، فهبَّ الناس للبحث عن أبنائهم، وأضحت البلدة وكأنها تعيش يوم قيامة.
هناك مَن يبكي وهناك مَن يسأل عن ابنه، ومَن يُسعف… وهناك مَن يدعو قائلاً: “يا رب إلطفْ بنا”. جميع الناس كانوا مذهولين من هول ما حصل!
قصف الطائرات الحربية لتجمُّع مدارس بلدة حاس، أدّى إلى مقتل أكثر من 40 شخصاً بينهم 14 طفلاً و4 مدرِّسين، بالإضافة إلى عشرات الجرحى نقلوا إلى المشافي لتلقي العلاج، بعضهم كانت إصاباتهم خطرة. فيما ضجّت الصحف العربية والعالمية وشبكات حقوق الإنسان بخبر المجزرة وطالبت بمحاسبة المسؤولين عنها.
القسم الأكبر من الضحايا هم من أطفال المدارس جرّاء استهداف الطائرات لتجمُّع ثلاثة مدارس مما أدّى إلى تهديمها. وكانت تلك الطائرات وكأنها تنتظر تجمُّع الناس الذين يذهبون لإنقاذ أطفالهم، ومن ثم تعود لترمي بغاراتها مرة أخرى، ممّا أدّى لإصابة قسم كبير من الطلاب والأهالي.
أدى ذلك إلى موجة من حوادث المرور، بين السيارات والدراجات النارية المتزاحمة إلى المكان، ما رفع عدد المصابين. كان التصادم يقع ويسقط سائقو الدراجات، ويترك كل منهم دراجته ويتابع المسير على قدميه.
أحمد (34 عاماً) راحَ يسأل عن ابنه الذي كان في المدرسة، بين جثث الأطفال في المسجد. فقال له المسعفون أنهُ قد يجده في المستشفى… لكنه لن يستطيع الدخول إلى المستشفى بسهولة، لأنها مليئة بجثث الأطفال والجرحى. فإذا بأحمد يركض للبحث عن ابنه تحت أنقاض المدرسة المهدَّمة.
“هل هوَ هنا أم في المستشفى أم ربما في المسجد؟” أيُّ بحثٍ هذا؟!
يقول أحمد بأنَّ المساجد في البلدة كانت تنادي مَن لم يعد إليه ولده، بأن يذهب ويبحث عنه تحت ركام مجمّع المدارس، أو بين الجثث في المسجد، أو بين الجرحى والأطفال المجهولين في المشافي القريبة من المنطقة حيث كان هناك عدد من الجثث المتفحمة، التي لم يتم التعرف عليها.
عبد الله عيدو (39 عاماً) وهو مدرِّس كان يمكث في الصف مع الطلاب أثناء المجزرة، يقول بأنّ تلميذته بيسان إبنة العشر سنوات، كانت وحيدة أبويها… وأثناء وقوع المجزرة، سمعها تصيح خلال أول غارة وهي تذرف دموعها: “أريد الذهاب إلى أمي، هل من أحد يوصلني إليها؟” ولكنَّ المسعفين وجدوها مستلقية على الأرض، وقد فارقت الحياة هي وإبنة عمها، بعد الغارة الثانية.
وأضاف عبدالله بأنَّ هناك شاب يُدعى أسامة، وقد كان مقرراً موعد زفافه بعد أيام، هبّ إلى إسعاف المصابين بالقرب من منزله على دراجته النارية… ولكنه عاد محمّلاً على الأكتاف بعدما استهدفته إحدى الغارات حين كان يسعف أحد الأطفال المُصابين إلى المستشفى.
كان النظام قد سبق واستهدف عدداً من المنازل في المنطقة، وقد قام أهلها بإعادة ترميمها… لكن بعد مجزرة المدارس، تمّ تدمير تلك المنازل بشكل كامل. كما أنّ الغارات لم يسلم منها النازحون إلى البلدة الذين هبّوا للإسعاف، فكان الموت من نصيب عددٍ منهم.
يوسف أبو حسين (28 عاماً) هو أحد هؤلاء المسعفين، يقول: “إحدى النساء قامت بمساعدة واحدة من قريباتها بعد أن أصابها شبه انهيار عصبي جرّاء الغارة الجوية. وبعد الغارة الخامسة حضنتها لتحميها من القصف، فاخترقت إحدى الشظايا جسدها لتفارق الحياة، وتبقى قريبتها تذرف الدموع عليها”.
ويضيف أبو حسين: “الكثير من الأهالي لم يتعرفوا على أبنائهم إلا من خلال حقائبهم المدرسية أو من خلال أحذيتهم. ويكون من حسن حظه مَن يجد إبنه قد فارق الحياة وهو مكتمل الأشلاء”!
ويقول أبو حسين بأنَّ أحد الأطباء هبَّ لإسعاف المصابين وحملَ فتاة مصابة، وعندما سألوه عنها قال: “هذه إبنتي قد أصيبت”. ويُكمل: “هو طبيب جراحة بقي لسنوات في غرف العمليات لإنقاذ المصابين جرّاء القصف… ثمَّ مكث في المستشفى لأيام، بسبب إصابته بغارة أخرى حين كان يُسعف ابنته… وفارق الحياة”.
مها (10 سنوات) في الصف الرابع كانت تقبع في المدرسة أثناء القصف، وقد طلبت منهم المعلّمة الهروب على الفور. تقول بأنها رأت رفيقاتها مستلقيات على الأرض وعليهن دماء في باحة المدرسة، بعد القصف الذي استهدفها.
تمَّ نقل مها وزميلاتها إلى أحد المساجد القريبة في البلدة، وكان فيها العشرات من الأطفال المصابين وبعضهم قد فارق الحياة بانتظار أهله لاستلامه… وقد أتت سيارات الإسعاف ونقلت بعضهم إلى المشافي القريبة، وتمَّ نقل الإصابات الخطيرة إلى تركيا.
خالد الزيدان (27 عاماً) وهو صحفي سوري قام بتصوير المجزرة أثناء وقوعها، وقد واكب انتشارها في وسائل الإعلام: “لقد انتشر خبر المجزرة كانتشار النار في الهشيم، فلم تكد تبقى صحيفة أو محطة تلفزيونية، إلا ونشرت خبر المجزرة عن أطفال لا ذنب لهم “.
ويضيف بأنّ هذه المجزرة أحرجت روسيا وحلفائها كثيراً عندما اتهمت الدول الغربية والمنظمات الحقوقية النظام السوري وروسيا بارتكاب المجزرة المروّعة. وحتى السفير الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين، قالَ بأنّ هذه المجزرة مرعبة وأتمنى ألا يكون لنا يد فيها”.
ويشير الزيدان إلى أنّ منظمة اليونسيف وصفت مجزرة حاس بالحدث المرعب وجريمة حرب. فيما طالبت الأمم المتحدة روسيا بفتح تحقيق عاجل في المجزرة، في ظل نفي روسيا مسؤوليتها عن استهداف مدارس حاس.
الشاهد على المجزرة أبو حسين، رأى بعض الأيدي المقطوعة التي ما زالت تتمسك بالحقائب المدرسية بعد وقوع المجزرة. ورأى بعض الأطفال يركضون وهم يحملون الحقائب الثقيلة… وعندما طلب منهم رميها، أجاب أحدهم: “أخاف إن رميتُها أن توبّخني أمي حين أعود إلى المنزل”.