في الريف لا مدارس ولا كتب مدرسية ولا مدرّسين
تستيقظ أم جوان كل صباح باكراً، ترافق ابنها إلى حافلة تقل المدرسين إلى إحدى مدارس الريف الجنوبي، كمال هو ما تبقى لها من أبنائها بعد هجرة البقية جميعاً. تودعه بمرارة قلب الأم الخائفة على ابنها من أن لا تراه ثانية. أم جوان ليست الوحيدة، فهند العروس الجديدة تودع زوجها توما يومياً، وتعود لتصلي في غيابه كي يحفظه الرب ويعود لها سالماً.
تنطلق إحدى حافلات المدرِّسين يومياً وهي تجوب شوارع البلد لتقل المدراء إلى مكان عملهم. تبدو الأمور طبيعية في المدينة، وحتى بالقرب من مدخل المدينة الجنوبي. لكن ما إن تبدأ الحافلة بالخروج من القامشلي، وتقترب من الحواجز، حتى يبدأ معها مسلسل الرعب والخوف اليومي.
“يا حيوان!” شتيمة كانت كافية لإنهاء حالة النعاس المخيمة على ركاب الحافلة. أحد الجنود صاح يشتم سائق الحافلة، لأنه لم يتوقف عند أحد الحواجز الجديدة، وخاصة، أن الحارس لم يكن موجوداً في مكانه.
صاح بهم: “إنزلوا واحداً واحداً”.
في هذه الأثناء كانت أم عبير تتمتم بصوت منخفض جداً: “الحافلة لها باب واحد وصغير وهل يمكن أن نترجل على دفعات”.
بدأ الجندي بالشتم والسباب، مخترقاً صوته سكون الجوار. طلب الهويات، كانت ثواني ووجد أكثر من 16 هوية متجمعة بين يديه. انطلقت الحافلة بعد اعتذار الجميع وتأكيدهم على عدم رؤية الجندي. في الطريق كانت أم عبير، وهي مدرّسة على وشك التقاعد، تفكر بزوج ابنتها المدرّس المطلوب للخدمة الإلزامية، وكيف يمكنه المرور عبر كل هذه الحواجز يومياً. لم يقاطع تفكيرها سوى وعورة الطريق ورداءته مع طول مسافته، فسائق الحافلة كان يتحاشى المرور على الحواجز. ويصرّ على الالتفاف وزيادة مسافة الطريق إلى أكثر من 21 كم يومياً، عدا عن اختلاف الحواجز ونوعيتها واختلاف ألوان أعلامها ورموزها.
سابقاً كانت المدة من والى مدارس الجنوب تستغرق ساعتين ذهاباً وإياباً. أمّا اليوم فالمسافة باتت تقدّر بأكثر من 4 ساعات ونصف الساعة، عدا عن وعورة الطريق، وزيادة أجور النقل والخوف من إلقاء القبض على المدرسين.
شفيق (إسم مستعار) مدرس في إحدى ثانويات تل حميس، يصف حالته النفسية فيقول: “منذ بداية العام الدراسي وأنا فاقد لتوازني، أعيش حالة رعب يومياً، في كل مرة يتم فيها توقيف الحافلة اشعر أنني قد انتهيت، المشكلة أن لا احد يعرف الأعمار المطلوبة للخدمة العسكرية الإلزامية، في كل مرة يتم إنزالنا أو اعتقال أحدنا اعتباطياً وعشوائياً، عدا عن الطريقة السوقية التي يتم التعامل بها معنا، والمشكلة الأكبر أنني حتى في منزلي أخشى وأخاف من صوت عجلات السيارات السريعة”.
أما يارا فهي الأخرى تصف لنا اضطرارها للذهاب إلى المدرسة بشكل متواضع بسيط، تقول “لا يمكن لنا كنساء الخروج بشكل لائق مع مساحيق التجميل أو حتى ثياب جميلة، فنظراتهم وحركاتهم ترعبنا وتزرع الخوف في داخلنا، منذ أيام كادّ أن يغمى علي، اقترب مني أحدهم وسألني: “شو اسمك يا حلوة؟” أصبحت الهجرة من أفضل الخيارات التي نملكها.
أحمد الشاب الوسيم ذو الشعر الذهبي، تقلقه نظرات الحقد والكراهية في عيون الجنود تجاه مظهره الجذاب. يقول أحمد: “سألني أحد الجنود: “شو ياه شعرك طبيعي ولا صبغ؟” رد عليه صديقه على الحاجز: “لا يكون مسوي عملية تحويل جنسي”. حينها خشي احمد أن يكون قد بلل سرواله الداخلي من الخوف.
الطريق إلى تل حميس وما حولها وبعد سنوات من المعارك الطاحنة والتي ذهب ضحيتها أبناء تلك المنطقة واغلبهم من الشباب تعود اليوم إلى واجهة المشهد لتتصدر مسرح الأحداث مجدداً.
مدير إحدى الثانويات في تلك المنطقة ويدعى عبد يقول: “منذ العام 2013 ولم تتلق مدارسنا أي حصة تدريسية، واليوم وبعد أكثر من عامين نحاول أن نعيد المدارس إلى حالتها الطبيعية، لكن مدارسنا دمّرت كلياً أو جزئياً. وباتت تفتقد جميع المستلزمات الكمالية لاستمرار العملية التعليمية. عدا عن إحجام المدرّسين وحتى المدرّسات من الالتحاق بالمدارس في الريف، خشية الاعتقال وخاصة من السوق إلى الجيش. على سبيل المثال حتى مطلع العام 2013 كانت ثانويتنا تستقبل 700طالب وطالبة للفرعين الأدبي والعلمي، وكان عدد المدرّسين أكثر من 21 مدرّست ومدرّسة، لكن اليوم ليس لدينا أكثر من23 طالب، ومدرّس واحد ومدرّستين فقط. يتابع المدير عبد: “حقيقة أخشى على هؤلاء المدرّسين، فأي شاب جامعي يخاف على الرغم من تأجيله دراسياً إلا أن الخوف يعتريه يوميا للذهاب والإياب من والى الجامعة في الحسكة. المشكلة أن الحواجز كثيرة ومختلفة وتعود لجهات متعددة ومختلفة ومتناحرة في ما بينها، ولا يمكن معرفة على أي الحواجز تم إلقاء القبض على الطالب الجامعي أو المدرّس. نحن نعيش كل شيء إلا حالة التدريس والتعليم. تصوروا قبل أيام كانت فترة الامتحانات المدرسية بلغ عدد الطلاب 11 طالباً فقط للصفوف الأول والثاني والثالث الثانوي”.
ربيعة طالبة في الصف الثالث الثانوي تقول: “حين بدأت الأحداث وخاصة حين تطورت في العام 2012 كنت في الصف التاسع، نجحت دون أن أتلقى أغلب الدرس، فالامتحانات كانت فوضى والغش من الأمور العادية، التحقت بالمدرسة الثانوية لدينا ولم أتلق درساً واحداً أبدا، حتى الرسم والرياضة لم أتلق أي شيء منهم، اليوم أنا في الصف الثالث الثانوي تصوروا أنني لم أخذ اغلب دروس الصف التاسع، ولم أتلق درس واحد خلال العامين الماضيين، أنا الآن طالبة فرع علمي، هل لكم من معرفة أي مستقبل سأحمل، تصور لو أصبح طبيبة”.
خالد النجار وليّ أمر أحد الطلبة يقول: “ربما المعارك والحروب أفضت إلى تدمير المدارس، لكن ما دمّر الأجيال ودمّر البلد هو الفساد والسرقات، واللامبالاة، تصور ان ابني ومنذ عامين لم يحصل سوى على 3 كتب من مجموع كتب المنهاج الدراسي البالغ عددهم 21 كتابا، المستودعات يدعون أنها فارغة، لكننا نجد الكتب في المكتبات الخاصة سعرها لا يقل عن 400% زيادة ومضاعفة عن السعر الحقيقي، لا مدارس، لا تعليم، ولا مناهج ولا كتب في الريف الجنوبي، كيف يمكننا تأهيل أبنائنا، لا حياة ولا أمل ضاع كل شيء”.
وفق النمطية هذه وبحسب إحصائيات تربوية محلية، على ما أفدنا، فإن التسرب المدرسي في الأعوام الثلاثة الماضية بلغ أكثر من 50% في المدينة، و80% في الأرياف، مع شحّ شديد في عدد المدرّسين، حيث بلغ عدد الشواغر والنقص في الأرياف أكثر في 90%، مع حوالي 40% في المدينة.