فرحة لم تكتمل

تزوجت في العام 1979، و خرجت من حارتي إلى بيت زوجي. شهدت أحداث الثمانينات في القرن الماضي، حين تم اعتقال ستة شباب من حارتنا من خيرة الشباب تعسفاً وظلماً، دون تهمة وجهت إليهم.

كانت سياسة عائلتي في تلك الفترة هي النأي بالنفس عن الأحداث، لكن لم أستطع أن أبتعد كثيراً عمّا حدث، فقصصت لأولادي الأربعة مجريات تلك الفترة. ودوماً كنت أذكر أسماء المعتقلين ورواياتهم ومصيرهم المجهول. أردت أن أنقل لهم أمانة التاريخ ليعلموا حقائق الدولة المجرمة التي تحكمهم. عندما بدأت الثورة في سوريا كنت من أوائل المشجعين لها. خرجت مع أولادي وزوجي في تشييع الشهداء الذين سقطوا برصاص قوات النظام في أول مظاهرات مدينة دوما، والتي كانت في شهر نيسان/أبريل عام 2011، وبعد يومين اقتحمت قوات الأمن منزلنا واعتقلوا ابني مع أولاد عمه. اقتادوهم إلى فرع الخطيب وهو أحد الفروع الأمنية في المدينة. خرجت مظاهرات في دوما تطالب بالمعتقلين، فأفرجوا عنهم بعد ثلاثة أيام. ولكن تلك الفئة الفاسدة الحاكمة لم تتركنا وشأننا. تواصلت المداهمات وكانت تطال منزلنا بشكل دائم. لم يبعدنا الخوف عن العمل الثوري، فشجعت ابنتي للالتحاق بركب الناشطات، و كنت من ورائها. أما بقية العائلة فكنا نقدم ما نستطيع لإنهاء هذا الظلم.

أمرأة تساعد زوجها على المشي في حي بستان القصر. تصوير براء الحلبي

في 25 أيلول/سبتمبر 2012،اعتقلوا ابنتي. أصابني الكدر والهم، والخوف عليها مما قد يلحق بها. فوّضت أمرها لرب العالمين، ولم يمضِ أسبوعين حتى اعتقلوا ابني أيضا. حاولت الصمود وتمسّكت بالصبر، ولكن لم أستطع أن أبعد عن مخيلتي صور المعتقلين، وأساليب التعذيب التي تمارس على أجسادهم الأسيرة. طرقنا كل الأبواب علّنا نصل إلى خبر عنهما، ولكن دون جدوى.

في 25 تشرين الأول/أوكتوبر 2012،  استيقظنا على تكبيرات مآذن المدينة، ونداءات تطالب الجيش الحر بالأخذ بالثأر. أصوات إطلاق الرصاص لم تهدأ، حاول زوجي الاستفسار بشكل سريع من الجيران، قالوا له أن حاجز الأمن السوري الواقع في منطقة ساحة الشهداء تسلل إلى أحد الأبنية، وقتل كل من فيها بطريقة وحشية. سألهم زوجي عن الضحايا فأخبروه، كان من بينهم رشا صديقة ابنتي، فزاد همّي وحزني عندما علمت. بسرعة بدأت حركة النزوح من المدينة، وتحولت حالة التحضير لاستقبال العيد حينها إلى حالة نزوح وفرار جماعي من المدينة. أعددت حقيبة النزوح، وقمنا بالتسلل من منزلنا تحت طلقات الرصاص. توجهنا إلى منزل أختي الأبعد عن الأحداث. عندما وصلنا قررنا أن نخرج جميعا من دوما، ونتجه إلى عدرا. كان ذلك في الساعة الخامسة عصراً، وإذ بالهاتف يرن، أجابت أختي وقبل أن تنبس ببنت شفة وجهت السماعة إلي ووجهها تعلوه الدهشة، فرددت على الاتصال وإذ بصوت ابنتي تخبرني بخروجها. أصابتني الفرحة بالضياع، وبدأت أبكي. لم أعرف ماذا أقول لها أو ماذا أسألها. كانت هي المبادرة، أخبرتني أنها خرجت بصفقة تفاوض مع النظام، وبأنها ستعود إلى المدينة. قالت لي أنها صائمة وجائعة وتريد أن تأكل فور وصولها، و طلبت مني بدلال كبير أن أعد لها بعض الأطباق. سألتني عن أحوالنا، فلم أتمالك نفسي، أخبرتها عن اعتقال أخيها وعن استشهاد صديقتها وعن تحضيرنا للنزوح، فصدمت. أنهينا المكالمة والتفت إلى أختي أعانقها و أبكي، أحمد الله على نعمته، أخبرتها أننا سوف نؤجل الخروج حتى عودة ابنتي. ركضت إلى المطبخ أحاول أن أعد لابنتي ما تريد، ولكن دون جدوى فنحن لم  نقم بالتسوق ومحلات المدينة مغلقة. ولكنني أريد أن ألبي طلبات ابنتي، فبدأت أدق على أبواب الجيران وأخبرهم بعودة ابنتي، وأستعير ما عندهم من المكونات التي أجدها. وبحلول المساء لم تأتِ ابنتي. اتصلت و أخبرتني بأنها لا تسطيع الدخول إلى المدينة الآن بسبب القصف العنيف، وأنها ستدخل غداً. وانقطع الاتصال فعدت خائبة، ولكنني منعت جميع من في المنزل من أن يقترب من الطعام، فهذا الطعام خاص بأسيرتي المحررة. بقيت متيقظة كل الليل أنتظر شروق شمس النهار، أعدّ اللحظات وأتخيل شكل ابنتي. نسيت حالة الفوضى التي تعيشها المدينة. كم كانت ثقيلة تلك اللحظات التي أقضيها بالانتظار، حتى أنني كلما سمعت صوتاً، ركضت إلى الباب أفتحه وأنظر من خلاله، و لكن دون جدوى.  وبحلول الساعة الرابعة عصراً طرق الباب ففتحته، وكانت ابنتي التي ارتمت في أحضاني مباشرة و بدأت تبكي.  حاولت تهدئتها، ضممتها إلى صدري ومسحت دموعها، وشددت على يدها. أحسست بأنها أعادت إلي روحي، و تلاشت في أعماقي حتى نسيت وجود أبيها بجانبي، يريد أن يسلم عليها هو الآخر، نسيت كل شيء حولي ومن ثم جلسنا حولها كالمدهوشين تخبرنا ما حدث معها خلف قضبان الظلم. و نحن نروي لها ما حدث في غيابها. اختنقت دمعتها بعينيها عندما علمت باعتقال أخيها واستشهاد صديقتها يوم خروجها. و إذ بآذان المغرب يبدأ فجلسنا حول مائدة الطعام، وكانت هي بجانبي أطعمها كما لو كانت طفلة.  غادرت الغرفة لاحقاً إلى المطبخ لأبكي أبني الغائب الذي لم يعد، ففرحتي مازالت ناقصة و مسروقة.

عبيدة الدومية (51 عاماً)، تعمل في الحياكة والتطريز، أم لأربعة أولاد في المرحلة الجامعية. أم لشاب معتقل منذ أكثر من سنتين وشابة اعتقلت وتم إطلاق سراحها. قُتِل أخوها وعدد من أبناء إخوتها.