فجر التحرير
حلب -السكري أم تبحث عن طفلتها المفودة في إحدى المجازر بين الجثث أما أحد المشافي الميداني
بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق. وتزداد يوماً بعد يوم بانتصارات الثوار وتحرير المناطق والمدن في ريف حماه الشمالي من يد الإجرام. والحمدلله وفضله تم تحرير العديد من المناطق والقرى المجاورة لقريتي التمانعة. ورداً على هذه الانتصارات بدأ النظام المجرم بتكثيف القصف على المناطق التي تحررت، محوّلاً أجواءها إلى جحيم لا يطاق. فأخذ الاهالي بالنزوح والهرب من القصف والموت. بعضهم لجأوا إلى قريتنا، علّها أكثر أماناً. على الرغم من القصف الذي لم يتوقف عليها، ولو للحظة منذ أن تحرّرت قبل أربع سنوات. وانتقاماً بدأ النظام بهجمته الشرسة علينا، بكافة أنواع القصف. وأصبح يستهدف أي تجمّع في القرية. وكانت صفارات الإنذار لا تهدأ. داعية الأهالي إلى أخذ الحيطة والحذر ما أمكن، وفق الوسائل المتاحة لديهم. والاختباء في الأقبية المحصّنة والملاجئ المتوافرة. وقد شاركت مكبرات المآذن بتحذير المواطنين من القصف اللعين.
أيام صعبة نعيشها وعيوننا لا تعرف النوم، والخوف الذي نشاهده في عيون الأطفال يلخّص كل خوف في اللحظات التي نعيشها .كان معظم وقتنا نمضيه في ملجأ قريب لنا. لم يكن مجهزاً ولكنه الحمدلله يحفظ أرواحنا من غدر طائرات المجرم الشرسة.
العائلات التي نزحت إلينا يزداد عددها يوما بعد يوم. قسم لجأ إلى المساجد وآخر إلى الملاجئ/ وثالث وجد له مكاناً تحت الأسقف المتبقية من المدارس المهدمة. وجاءنا خبر ذات ليلة أن طائرات النظام ستستهدف المساجد والملاجئ التي لجأ إليها النازحون. وعلى الفور أمر المجلس المحلّي بإخلائها. هرع أهالي القرية لإيواء ما أمكن في منازلهم. رغم أنها كانت تستضيف أمثالهم ولا زالوا. وفي الليلة نفسها دوّى صوت انفجارعنيف. هزّ المكان الذي كان يعج بالقاطنين قبل دقائق، فأحدث دماراً هائلاً في المنطقة والأرجاء المحيطة بها. تعالت الصيحات مستنجدة بأولي الأمر الذين تواجدوا في المكان. كنت أشاهد حماسهم وهم يؤدّون واجبهم بين الركام والغبار المتصاعد وألسنة اللهب المتطايرة. الأوضاع تسوء يوماً بعد يوم. في صباح أحد الأيام الذي بدأ هادئا، جاءت جارتنا إلينا، وبينما أحضر القهوة، وإذا بصوت قوي لا يطاق ينبعث من طائرة، ويضرب السوق الشعبي في قريتي الحبيبة. السوق كان مليئاً بالنّاس من أهل القرية ومن النازحين. وقعت مني فناجين القهوة وركضت إلى الخارج لأستطلع ماذا حدث. وإذا بسيارات الإسعاف وأصوات صفارات الإنذار تصم آذان الأهالي الذين تدافع بعضهم إلى مكان القصف. وبدأت السيارات بنقل الشهداء والجرحى إلى المشافي. وكان من بين الشهداء أفراد عائلة كاملة كانوا قد نزحوا حفاظاً على أرواحهم وهربا من الموت. فكان مصيرهم الشهادة بعد أن تناثرت أجسادهم أشلاء في أرجاء المكان الذي اصطبغ بحمرة الدماء الزكية. شهداء في الشوارع ارتموا هنا وهناك وعشرات الجرحى. وانطلقت نداءات من النقط الطبية تهيب بالمواطنين للتبرع بالدّم. فهبّ الشباب لأداء واجبهم في هذا المجال علّهم ينقذون أرواح الجرحى الذين يحتاجون لبعض الدم الذي خسرته أجسادهم.
وما هي إلّا لحظات واذا بسيارة جارنا تقف أمام منزله ويصرخ بصوت عالٍ: “أعطوني غطاء بسرعة”! فخرجنا لنرى ماذا يحدث، واجتمع الأهالي حول السيارة. كان جارنا ينقل جثمان أخاه الذي نال الشهادة. هرب من قريته خوفاً على حياته وحياة أطفاله الأربعة وزوجته. فكان نصيبه نيل شرف الشهادة. ارتفعت أصوات الزغاريد الممتزجة بالبكاء من فم زوجته الثكلى، وصياح أطفاله الذين أصبحوا أيتاما من بعده. هذا المشهد استقر في مخيلتي، فلا يكاد يفارقني ولو للحظة واحدة .
ذهبت بصحبة جارتنا لنقدم العزاء للزوجة. يا الله على هذه المرأة القوية. كانت لا تهمس إلّا بقول “الحمدلله لقد كفل لي الجنة بشهادته”. لم يكن أول شهيد ولن يكون الأخير. وابنه الذي لم يتجاوز العشرين من عمره وضع دم والده على صدره وقال: سآخذ بالثأر يا أبي وسانضم إلى صفوف الثوار.
مشهد أطفاله الذين كانوا يبكون فوق رأس والدهم ويقولون: “استيقظ يا أبي. انت قلت انك ذاهب لجلب الأراض والحلوى ولن تتأخر، وستعود الينا، إلى الملجأ. هيا انهض. لا تمت. انهض، لا نريدك أن تموت”. بدأ الجميع بالبكاء على سماع هذه الكلمات الصادرة من الطفولة البريئة، التي لا ذنب لها بكل ما يحدث.
يارب يا رب، عجّل بفرجك القريب على بلدي الجريح، فهو جميل يستحق الحياة. ننتظر منك ذاك الفرج الذي يريح قلوبنا ويبكي عيوننا فرحة بالنصر.
وما زالت الطائرات تحوم في سماء القرية علّها تجد هدفاً آخر لتنفذ مهامها بتدميره.
رولا عبد الكريم (27 عاماً) من ريف إدلب. تحمل إجازة في علم الاجتماع.